«شهادتى على عصر عبد الناصر:سنوات الانتصار والانكسار» هو عنوان الكتاب الذى صدر حديثا للكاتب الصحفى الكبير صلاح منتصر، يقدم فيه رؤيته وخلاصة تجربته من واقع معايشته حقبة مازالت تُعد من أهم الحقب التاريخية التى مرت على مصر، ليس فقط بحكم التحولات الجذرية التى أحدثتها فى زمانها على الأصعدة كافة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وإنما لامتداد تأثيرها إلى يومنا الراهن بالانقسام الذى صاحبها بين مؤيد ومعارض لها، كما كان لزعيمها جمال عبد الناصر، الذى امتلك كاريزما طاغية لم ينافسه فيها زعيم آخر، مكانة خاصة جعلت له حضورا قويا فى حياة المصريين حتى بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على رحيله، وإن كانت لنفس السبب حجبت التقييم الموضوعى لسياساته وحرَّمت أى انتقادات توجه لها لفترات طويلة. من هنا تأتى أهمية هذا الكتاب، الذى يتناول الفترة الناصرية بما لها وما عليها دون تحيزات مسبقة، أو انتماءات أيديولوجية تنزع عن مؤلفه صفة الحيدة والنزاهة، خاصة أنه كما يذكر هو نفسه لم يكن من ضحايا ثورة يوليو بل من أشد المؤمنين بها عندما قامت، ولا يسعى إلا إلى تقديم شهادته بأمانة للاستفادة منها فى الحاضر والمستقبل، مستندا إلى تراكم خبراته المهنية والعمرية، إضافة إلى التوثيق الدقيق لكل الأحداث التى تعرَّض لها معتمدا على المذكرات السياسية وشهادات رجال الثورة المقربين، الذين شكلوا دائرة صنع القرار، وهو نوع من الكتابة الوثائقية التحليلية تسرى على مختلف الأزمنة، برع فيه فى الآونة الأخيرة كاتبنا الكبير، الذى يتابعه قراؤه على صفحات الأهرام والمصرى اليوم. لذلك فالتاريخ لا يُكتب من جديد ولكن تُعاد قراءته وتفسيره مرات ومرات ومن زوايا عديدة لوضع قضايا الحاضر فى مكانها الصحيح، وعلى اعتبار أن الحقيقة الوحيدة الثابتة هى أن كل شيء خاضع للتغيير والتطور، وهى بمثابة القانون الوحيد الجامع والحاكم لحركة كل المجتمعات الإنسانية. فى هذا السياق تتم مناقشة الأفكار الواردة بالكتاب، وقد حرص الكاتب قبل طرح قضاياه على تأكيد أن ناصر كان خالص النية فى اصلاح مصر ومنحازا للفقراء لكن وسائل الاصلاح التى اتخذها لم تحقق الهدف الذى تصوره بل جاءت فى معظمها بنتائج عكسية. وأبدأ من الفصل الأخير بعنوان «حصاد ثورة ناصر» للتوقف بصورة موجزة عند بعض هذه القضايا لاستمرارية أثرها وصلتها بالواقع الحالي، وأهمها تداعيات قرارات التأميم التى أجهزت على الرأسمالية الوطنية، ولم يتمكن القطاع العام الذى خلفها تعويض دورها فى النهوض بالصناعة والاقتصاد القومي، إذ تحول إلى مؤسسة بيروقراطية عانت سوء الادارة والفساد، ولم تفلح عمليات الخصخصة التى جرت بعد ذلك بعقود فى ارجاع الأمر إلى ما كان عليه، كذلك كان الحال بالنسبة لقانون الاصلاح الزراعي، الذى فتت الملكية وانتهى بتجريف الأراضى وبيعها والبناء عليها لتتقلص المساحة الخضراء على مستوى الجمهورية وتفقد السياسة الزراعية الكلية تجانسها وتتراجع إلى أدنى مستوياتها، والشيء نفسه ينطبق على قانون تخفيض الإيجارات للوحدات السكنية دونما اعتبار لقيمتها الحقيقية أو كما يُعرف بقانون العلاقة بين المالك والمستأجر، الذى تسبب ولأول مرة فى أزمة فى إسكان بمصر تبعتها ظاهرة التمليك بأسعار فلكية لا يقدر عليها إلا الأثرياء، المدهش فى الأمر أن هذا القانون تحديدا لا يستطيع أحد الاقتراب منه أو تعديله إلى الآن. نقطة أخرى مهمة تتعلق بالأثر الاجتماعى للقضاء على التعددية الحزبية والانتقال إلى التنظيم السياسى الواحد، والمقصود به تدهور الطبقة الوسطي، حيث استلزمت هذه الصيغة الاعتماد على تعبئة فئات بعينها يمثلها العمال والفلاحون على حساب طبقة الأفندية والمثقفين، وهو ما انعكس فى النهاية على المجتمع ككل، فحتى ازدهار الفنون فى الخمسينيات والستينيات المرتبط بهذه الطبقة، لم يكن لميزة ذاتية فى هذا العهد ولكن لأن عمالقة الأدب والفكر والفن والموسيقى والغناء جميعهم ولدوا وتعلموا ونشأوا قبل الثورة ومن ثم امتد عطاؤهم بقوة بعدها. هناك أيضا سؤال جوهرى يستنبطه القارئ من تسلسل الأحداث كما جاءت فى الكتاب وتضمنتها أغلب فصوله، وهو هل جميع القرارات المصيرية التى صنعت تاريخ أمة وقادتها إلى الانتصارات والانكسارات انبثقت من رؤية ثاقبة وفكر متجانس أم فرضها الواقع الدولى والإقليمى وبالتالى كانت أقرب إلى ردود الأفعال منها الى السياسات العامة؟ وأكتفى ببعض الأمثلة التى تستحق التأمل والمراجعة وفى مقدمتها: قرار تأميم قناة السويس 1956 ردا على رفض الولاياتالمتحدة تمويل مشروع السد العالي، واعتبارها معركة كرامة دون حساب يومها للمكاسب والخسائر وأننا كنا سنستردها بصورة طبيعية بعد 12 سنة (ص 36) كذلك الوحدة بين مصر وسوريا، التى لم يُعدّ أو يُخطط لها وانتهت بالانفصال 1961، وهو ما اعترف به عبدالناصر قائلا، فى أول تعليق له على الحدث «لقد فُرضت علينا الوحدة فى 58 وأننا قبلناها وضحينا فى سبيلها لننقذ سوريا من الضياع الحتمى، وعندما تمت بدأت العناصر التى طلبتها تريد كل منها استخدام الوحدة لتحقيق أهدافها: الرأسماليون والبعثيون ورجال الجيش أيضا» (ص46) وبعد سنوات كتب هيكل فى سنوات الغليان أن جمال وقع فى خطأ الاعتماد على مسلمات قديمة لم يتأكد من استمرار صحتها أو صدقها، بينما أعزا عبداللطيف البغدادى فى الجزء الثانى من مذكراته إخفاق الوحدة إلى غياب دور الشعب فى السياسات التى تُرسم له سواء فى مصر أو سوريا (ص60 وما بعدها)، والملابسات ذاتها أحاطت بتأييد مصر للثورة العراقية 1958 التى قادها عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قبل أن يُغتال الأول وتئول السلطة للأخير فى 1963 ويبدأ الحديث عن وحدة ثلاثية بين مصر وسوريا والعراق لتنتهى بنفس الفشل ويهاجم فيها عبد الناصر الحكم البعثى فى الدولتين وبشكل غير مسبوق (ص 69/70) ويظل المثال الأخطر هو حرب اليمن التى استنزفت الموارد المادية والبشرية المصرية، دون أن تتوافر للقاهرة معلومات كافية عن الأرض المجهولة والبيئة القبلية والجغرافية القاسية التى حاربت فيها، وهنا يقول مؤلف الكتاب إنه لولا جرح الانفصال الذى ترك آثاره العميقة فى نفس جمال عبدالناصر لما قرر طريق الحرب، (ص82) وأخيرا يأتى مثال هزيمة يونيو 1967، التى وصفها هيكل فى «الانفجار» بالمؤامرة وإن لم تُعف ناصر من مسئولية الوقوع فى الفخ الذى نُصب له (ص100). هذه الأمثلة ليست مجرد إبحار فى التاريخ ولا نقد من أجل النقد، ولكن تبقى لها دلالتها القوية فى الإجابة عن الكيفية التى يُصنع بها القرار بما قد يؤدى إليه من نتائج غير متوقعة وأحيانا كارثية، وهو ما يُكسب الكتاب قيمة إضافية سواء اتفقنا أو اختلفنا معه. لمزيد من مقالات د. هالة مصطفى