كشفت الأزمة الأخيرة بين السعودية وكندا عن الوجه الحقيقى للغرب فى التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسى من عدة نواح: أولا: أصبحت قضية حقوق الإنسان والديمقراطية والإصلاح السياسى منذ انتهاء الحرب الباردة ورقة ومظلة تستخدمها الدول الكبرى للتدخل فى شئون الدول الأخري، خاصة فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لتحقيق أهدافها وأجنداتها السياسية والاقتصادية وليس دفاعا حقيقيا عن حقوق الإنسان، فعندما تتعارض المثالية أى قيم الدفاع عن الديمقراطية مع الواقعية، أى المصالح، فإن الدول الغربية سرعان ما تضحى باعتبارات الديمقراطية وحق الإنسان، وهو ما يؤكد أن دفاع هذه الدول عن حقوق الإنسان ما هى إلا شعارات جوفاء. ثانيا: تتعامل الدول الغربية بازدواجية مع قضية حقوق الإنسان، ففى الوقت الذى تهب فيه وتعلن عن انتقاداتها وتتخذ إجراءات ضد بعض الدول للدفاع عما تسميهم النشطاء السياسيين، نجدها تتقاعس بل وتتجاهل الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان فى كثير من دول العالم دون أن تتخذ إجراءات فعلية، ففى حالة ميانمار هرب مئات الآلاف من أقلية الروهينجا إلى الدول المجاورة وتم قتل المئات منهم أحياء وإحراق بيوتهم وتجريدهم من كل حقوق المواطنة، ولم يتحرك الغرب أو يتخذ اية إجراءات رادعة لحل هذه الأزمة. وفى حالة رواندا فى التسعينيات من القرن الماضى قتل ما يقارب المليون شخص فى أيام قليلة فى مذابح بين التوتسى والهوتو، ولم يتحرك المجتمع الدولى لمنع تلك المذابح التى شكلت نقطة سوداء فى تاريخ البشرية وفى دور الأممالمتحدة فى حفظ السلم والأمن الدوليين. ونفس الأمر تكرر من قبل فى البوسنة والهرسك حيث قتل عشرات الآلاف فى مذبحة سبرنيتشا دون أن تتحرك أوروبا أو المنظمات الدولية لمنع تلك الانتهاكات، وهناك عشرات الأمثلة التى أغمض فيها الغرب عينيه عن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان بينما نجده ينتفض فى قضايا معينة لأغراض سياسية وللابتزاز الاقتصادي. ولعل المثل الصارخ على الازدواجية الغربية يتمثل فى الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة منذ عقود ضد الشعب الفلسطينى من قتل وحصار وانتهاك لمقدساته الدينية واغتصاب أراضيه المحتلة، ولم يتحرك الغرب أو المجتمع الدولي، بل ساند إسرائيل فى ممارستها وتحميل المسئولية على الجانب الفلسطيني. ثالثا: ساهمت سياسات الغرب والدول الكبرى ذاتها فى تفاقم مشكلة حقوق الإنسان فى العالم، حيث أدت سياسة المصالح ولعبة حقوق الإنسان والتدخل فى الكثير من الأزمات ومنها ما حدث من حروب وأزمات فى المنطقة العربية فى سوريا والعراق وليبيا واليمن، إلى تفاقم تلك الأزمات وإطالة أمدها نتيجة لتغذية الغرب لحالة الاستقطاب الداخلى بين أطراف الأزمة ودعم بعض التنظيمات المسلحة والفاعلين من غير الدول التى انتهكت كل حقوق الإنسان، ومنها تنظيم داعش الإرهابى الذى وظفته بعض الدول الكبرى لخدمة أجنداتها فى اشتعال الصراعات والحروب فى المنطقة. رابعا: صحيح أن الغرب حقق درجة عالية من حقوق الإنسان والمساواة فى الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن تعامله مع الآخر يكشف ازدواجية المعايير فى التعامل مع حقوق الإنسان، وهو ما أبرزته قضية الهجرة غير الشرعية واللاجئين، فرغم أن هؤلاء المهاجرين واللاجئين هربوا من بلدانهم ومناطق الصراعات خوفا على حياتهم والتماس الأمان فى مناطق أخرى من العالم، إلا الدول الغربية تعاملت معهم كمجرمين ومذنبين وليسوا كضحايا تفرض القوانين الدولية والإنسانية التعامل معهم ومساعدتهم على تجاوز محنتهم، ووضعت أمامهم العقبات والعراقيل ومارست ضدهم انتهاكات عديدة، حيث تم ترحيلهم قسرا وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية وتم احتجاز بعضهم فى أماكن غير إنسانية، بل وخضعت تلك القضية لاعتبارات المزايدة بين الأحزاب السياسية واليمين المتطرف فى تلك الدول، إضافة إلى القيود المتزايدة التى يفرضها الغرب على الأقليات الدينية فيها وغيرها من الممارسات التى تعكس أن قضية حقوق الإنسان فى العالم تواجه محنة حقيقية المسئول عنها بالأساس الدول الغربية. خامسا: رغم أن قضية حقوق الإنسان أصبحت قضية عالمية وفقا للإعلان العالمى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنساني، إلا أنها تثير إشكالية التعارض مع مفهوم السيادة الذى أقره ميثاق الأممالمتحدة والأعراف الدولية، حيث انتهكت الكثير من الدول الغربية سيادة الدول الأخرى تحت دعاوى حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها، بينما تستهدف بالأساس تحقيق مصالحها، وهو ما يدفع إلى وضع الضوابط الدولية لتحقيق التوازن بين حماية حقوق الإنسان كقضية عالمية، وبين اعتبارات سيادة الدول وحقها فى مواجهة الخارجين عن القانون وتهديد أمنها عبر تلقى الكثير من التنظيمات التمويل من الخارج وتوظيفه لزعزعة أسس استقرار تلك الدول. سادسا: فى حالة الأزمة بين كندا والسعودية، شكل السلوك الكندى تدخلا سافرا فى شئون المملكة عندما استخدم السفير الكندى عبارات مثل الإفراج الفورى عن بعض النشطاء السياسيين، فى لغة تنتهك كل الأعراف الدبلوماسية والقانون الدولي، كما أن قضية هؤلاء الأشخاص الذين تطالب كندا بالإفراج عنهم لا ترتبط بقضية حقوق الإنسان، وإنما ترتبط بقضية جنائية تتعلق بالتجسس وإقامة علاقات مع دول أجنبية بما يهدد أمن واستقرار المملكة وتنظر أمام القضاء السعودي، ولذا فإن رد الفعل السعودى وما اتخذته من إجراءات تجاه كندا مثل وقف الصفقات العسكرية ونقل الطلاب السعوديين فى الجامعات الكندية إلى جامعات فى دول أخرى ووقف الاستثمارات المستقبلية، كان حاسما وحازما ورسالة رادعة ليس لكندا وحدها، وإنما إلى الدول الأخرى ودفاعا عن أمنها وسيادتها وعن الدول العربية فى مواجهة التوظيف السياسى لحقوق الإنسان من جانب الدول الغربية. لمزيد من مقالات ◀ أحمد سيد أحمد