سألتنى الصحفيتان الظريفتان اللتان جاءتا من قبل بكسر القاف وفتح الباء العزيز الغالى عبدالمحسن سلامة نقيب الصحفيين ورئيس مجلس إدارة الأهرام الذى يحاول جاهدا أن يعود بالأهرام إلى أيام أمجاده الذهبية ويحتاج نظرة شاملة من الدولة لمتاعب الصحافة الورقية: احك لنا حكايتك مع الصحافة.. ومهنة أصحاب المتاعب لعلنا نتعلم منها ونصل إلى قاعدة الهرم الصحفى الذى تقف أنت وأمثالك على قمته.. وكيف كانت البداية?قلت لهما: يوه.. دى حكاية طويلة طويلة.. تقاطعانى بجملة عبدالحليم حافظ.. بظرف البنات فى سنهن وحلمهن: بس قولها من البداية؟
قلت: تعالوا نقلب معا دفتر الأيام لنعود إلى أيام كنا فيها نحلم وكنا فيها نغنى ونجرى ونقفز وندور من حولنا دوخينى يالمونة بلا تعب بلا زعل بلا خصام.. وكأن الأيام ملكنا وكأن الأيام صديقتنا ورفيقة دربنا.. ويالها من أيام ويالها من أحلام ويا لها من رفقة رفاق وصحبة أصحاب: المؤدب والمخطط والجرىء: عبدالوهاب مطاوع ومحمد زايد وأنا.. فرسان الصحافة المصرية أيامها على سن ورمح ولو كره الحاسدون وكما قلت فى كتابى: أيام فى القلب: كانت الدنيا دنيا وكان الفن فنا والأدب أدبا والشعر شعرا والمسرح مسرحا والسينما ثالث سينما على العالم.. تصوروا..؟ وكان الناس غير ناس هذه الأيام أكثر أدبا ودينا وأقل غدرا ونفاقا.. وكنا نخاف أن نرتكب عيبا أو نقع فى معصية.. وكان الرجل أيامها وهذا هو الأهم هو سيد البيت دون منازع.. مع احترام للمرأة وتقدير وتبجيل لدورها فى الحياة.. ولم يكن كما يحدث فى هذه الأيام قد حمل عزاله ولملم متاعه وخرج من الدار إلى غير رجعة! فى هذا المناخ الجميل المحيا العطر الأنفاس.. عشنا وتنفسنا حبا وخلقا وجمالا وأدبا وعلما وعطاء ودينا وفضيلة.. كنا قد تخرجنا فى كلية الآداب قسم صحافة فى آخر سنة من الخمسينيات.. بعد ظهور النتيجة بأسبوع واحد فاجأنى عم عبدالعليم ساعى أو كوماندا قسم صحافة كما كنا نسميه.. وأنا ذاهب لأخذ شهادة التخرج بقوله.. الدكتور خليل صابات وهو أستاذنا ومعلمنا كلنا اختار خمسة وأنت منهم لكى تذهبوا إلى جريدة الأهرام غدا حسب طلب الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس التحرير.. لكى يجدد بنا شباب الأهرام.. ياللهول.. *** وصبح الصباح ومن النجمة كنت أطرق باب الأهرام العتيق فى مبناه التاريخى فى شارع مظلوم الذى هدموه بكل أسف.. قال لى موظف الاستعلامات بعد أن قلت له اسمي: اتفضل عند الأستاذ توفيق بحرى سكرتير التحرير وكان وقتها صاحب جاه وصولجان وكبرياء بلا حدود.. وذهبت إلى مكتبه فى الدور الأول.. وجدته مفتوحا ووجدت مفاجأة لم تكن فى الحسبان فى انتظاري: الرفاق كلهم قد سبقونى إليه.. جيهان رشتى التى أصبحت عميدة كلية الاعلام فيما بعد + ليليان مرقص حنا التى أصبحت رئيسة قسم المرأة + عبدالمنعم سليم الذى أصبح فيما بعد سكرتير تحرير أخبار اليوم وليس الأهرام+ محمد فريد عزت أستاذ الصحافة فى الجامعات المصرية والعربية فيما بعد + أنا. لم ينظر إلينا توفيق بحرى أو حتى مجرد أن يلتفت ليرانا وأشار بأصبعه إلى مساعده الأول: رجاء عزيز سكرتير التحرير إشارة لم نفهمها.. ولكننا فهمنا كل شىء عندما اصطحبنا رجاء عزيز إلى البدروم، حيث مطبعة جمع الحروف.. وكانت الأهرام أيامها يجمعون صفحاتها على آلات اللينوتيب والإنترتيب التى تصف الحروف والسطور بالرصاص السائل.. وأمضينا يارفاقى شهرا بين الرصاص والأحبار والعمال بردائهم الأزرق وصفحاتهم الحديدية وقلوبهم الصافية.. وفى آخر الشهر لم نقبض مليما واحدا.. وشمرت أنا والأخ عبدالمنعم سليم عن ساعة الجد لكى نفهم ونعرف الصحافة من باب المطبعة أولا + محاولة تعلم جمع الحروف على الآلات العتيقة التى كانت أيامها قمة تكنولوجيا تجهيز الصحف + عمل صور فى الزنكوغراف أمام كشافات إضاءة قوية يمكنها إضاءة حى بكامله! كنا نأكل معهم أطباق الكشرى والفول والكوارع ونشرب الشاى الأسود.. وأحبونا وأحببناهم ولم يبخلوا علينا بخبراتهم ومهاراتهم وفنهم.. ولم نبخل عليهم بعلمنا وظرفنا وأدبنا.. ولكن جيهان رشتى لم تصبر.. هربت من الأهرام إلى الجامعة وقبل أن تذهب حاولت إقناعى بأن أذهب معها لأصبح أستاذا عظيما فى الصحافة.. ولكننى قلت لها على ما أذكر: مكانى هنا فى الأهرام ولن أتركه أبدا! وهرب عبدالمنعم سليم إلى اخبار اليوم حيث أصبح سكرتيرا لتحريرها.. وذهب محمد فريد عزت إلى الجامعة لكى يحصل على الدكتوراه.. وطلبت ليليان مرقص حنا نقلها إلى أرشيف المعلومات هربا من الرصاص والأحبار ومنه إلى قسم المرأة.. وذهبت أنا فى البداية إلى مجلة «الأهرام الاقتصادى» وكان د. بطرس غالى أمين عام الأممالمتحدة فيما بعد رئيسا لتحريرها.. وأذكر أنه قال لى جملة لا أنساها أبدا: «لا تقفز السلم ياعم عزت مرة واحدة فتقع على أم رأسك.. اصعده درجة بعد درجة.. تصل»! {{ ملحوظة من عندي: عندما زرت الدكتور بطرس غالى فى مكتبه فى الأممالمتحدة فى نيويورك عندما أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة وأصبحت أنا صحفيا مجاهدا مناقرا.. ذكرته بهذه الجملة التى قالها لى شابا. فضحك وقال: الظاهر إنك يا عم عزت عملت بيها! *** وتمضى الشهور.. وأنا أجاهد لكيلا أفقد مكانى ولا كيانى.. لم يعطونا مليما واحدا.. كانت أمى تقوم بدور الممول.. كانت تعطينى عشرة قروش أكرر عشرة قروش كل صباح وأنا ذاهب لأركب قطار السادسة صباحا من محطة القناطر الخيرية إلى باب الحديد.. ثم من باب الحديد مشيا على الأقدام حتى مبنى الأهرام فى باب اللوق.. اسماعيل الحبروك - د.جيهان روشتى - د.خليل صابات وسألت نفسى دون صوت: يا واد أنت تضيع أجمل سنوات العمر بين الأحبار والرصاص والعمال.. اطلع فوق.. قب فوق السطح واشتغل صحفيا.. امسك القلم واكتب مثلما كنت تكتب القصص والتحقيقات فى صباح الخير وآخر ساعة والجمهورية مع الصحفى القدير الأمير المليجى أيام الجامعة.. جرالك إيه ياعم عزت؟ *** وسمعت نصيحة نفسى وقلت لهم: أنا باعرف أكتب. قالوا لى: اطلع فوق مكانك فى قسم التحقيقات.. وصعدت من البدروم حيث أقسام الجمع والرصاص والأحبار والقلوب الصافية التى لاتعرف حقدا ولاغيرة ولا حسدا.. إلى الدور الأول حيث قسم التحقيقات الصحفية.. وكان أول من أشرف عليه الأديب والقصاص الكبير إسماعيل الحبروك أحد رؤساء تحرير جريدة الأخبار وجريدة الجمهورية عندما كان يرأس تحريرها الرئيس الراحل أنور السادات. ولم أكن أعرف أن الأقدار ترتب لى مع هذه الشخصية الرائعة موقفا فارقا كان نقطة تحول فى حياتى الصحفية كلها.. ولأننى مازلت محررا تحت التمرين فلم يكن لى راتب ولا مكافأة شهرية ولاحتى مجرد توقيع باسمى على ما أكتب.. يعنى كل ما أكتبه ينشرونه بتوقيع زملاء آخرين! وطلب منى الأستاذ إسماعيل الحبروك أن أكتب تحقيقا عن الأهرامات وعظمة المصريين القدماء.. وشمرت عن ساعة الجد وكتبت تحقيقا ملأ كراسة كاملة وجمعت فيه كل مواهبى وإبداعاتي..حتى يعرف حقيقة هذا الفتى المغوار الذى هو أنا.. وسلمت له التحقيق وأنا فى قرارة نفسى أشفق عليه من هول المفاجأة عندما يكتشف أنه قد عثر على نابغة عصره وعبقرى زمانه الذى هو أنا.. وحتى تكتمل فصول الرواية المثيرة كما رسمها خيالى الخصب أيامها.. ركبت قطار المساء إلى القناطر الخيرية حيث أقيم.. وأنا أتصور أن ماكتبته سوف يملأ صفحة على الأقل فى أهرام الغد.. *** وبعدين؟ تسأل الفتاتان؟ قلت: وصبح الصباح وركبت أول قطار مسافر إلى القاهرة.. وفتحت إريال سمعى على آخره لعلنى أسمع باعة الصحف فى القطار ينادون: اقرأ ياجدع عزت السعدنى كاتب إيه النهاردة فى الأهرام! على طريقة ما كان يحدث عندما كان يكتب فى الصفحة الأولى فى الأهرام عمالقة الأدب والفكر والصحافة أيامها أمثال: عباس العقاد وطه حسين وفكرى أباظة.. والصاوى محمد.. لكن شيئا من هذه الخيالات لم يتحقق.. ومر أكثر من بائع صحف ولم أسمع أى نداء على اسمي.. واستأذنت جارا لى فى القطار كان يقرأ الأهرام وتصفحت صفحاته فى هدوء لعلنى أجد اسمى على صفحات الجريدة.. ولكننى لم أعثر على شيء.. ولو فى صفحة الوفيات! وقلت لنفسى يمكن الأستاذ ما لحقش يقرا ما كتبته وسوف ينشره غدا.. وذهبت إلى الأهرام وخطوات منى إلى مكتب الأستاذ اسماعيل الحبروك ورحت أتحنجل أمامه لعله يراني.. إذ كان مشغولا بإملاء قصة له على سكرتيرته.. ولكن الأستاذ لم يرنى ولم يلمحنى وكأننى لست على باله بالمرة، واستجمعت شجاعتى وواجهته وقلت له: يافندم أنا عزت.. قال: عزت مين؟ قلت له: أنا عزت صاحب تحقيق الأهرامات.. قال : أهرامات إيه؟ قلت: التحقيق إللى حضرتك طلبته مني.. قال: آه.. افتكرت.. إنت يابنى ماتنفعش صحفى أبدا.. انت تنفع كاتب فى أرشيف وزارة الأوقاف! وفى لحظة زمن لا أكثر ومن سابع سماء إلى سابع أرض سقطت..! شعرت بأن الأرض تميد من تحت قدمي.. تلاحقت الصور والأضواء والألوان.. كأننى أغوص فى أعماق قوس قزح.. لم أتكلم.. لم أدافع عن نفسي.. لم أجد حتى ما أقوله.. ورجعت من عند الأستاذ إسماعيل الحبروك وأنا أحمل جبل المقطم كله فوق ;كتفى.. نزلت إلى الطريق وأنا لا أعرف إلى أين؟ ولكن قدمى فى النهاية.. قادتانى إلى باب الحديد.. لأركب القطار فى طريقى إلى حضن أمى الذى اكتشفت ساعتها أننى أحوج خلق الله إلى حضنها وحنانها.. ومرضت ورقدت فى سريرى ثلاثة أيام ودرجة حرارتى لا تنخفض درجة واحدة.. ولكننى صحوت على حقيقة واحدة مثل شمس الظهيرة.. لابد أن أتغير.. أن أتعلم.. أن أعود تلميذا مخلصا فى بلاط صاحبة الجلالة. *** وتدور الأيام.. وأتعلم الدرس وأكتب وأكتب وأكتب.. ومن رحم الفشل نعرف الطريق.. ومع الألم.. مع الصبر.. ومذاق العرق والإصرار والمثابرة.. يولد النجاح.. إنه أول درس يارفاقى تعلمته فى بلاط صاحبة الجلالة وياله من درس!.. تصفق الفتاتان زهوا ومرحا وقالتا فى صوت واحد: ياريت يا أستاذ نصبر ونداقر ونعافر زى حضرتك كده.. لحد اما نوصل.. بس مين يسمع.. ومين يشوف؟ ----------------------------------------------------------
ولكن قدمى فى النهاية.. قادتانى إلى باب الحديد.. لأركب القطار فى طريقى إلى حضن أمى الذى اكتشفت ساعتها أننى أحوج خلق الله إلى حضنها وحنانها