لم أكن أعرف أن مريكا رع ابن الملك خيتى الثالث موجود بيننا.. إلا عندما رفع أصبعه يريد الكلام وقدم نفسه إلينا.. ثم قال: أبلغ دليل على عدالة الملوك الفراعنة ما فعله أبى الملك خيتى الثالث عندما نصحنى قبل أن أتولى الحكم فى عام 2120 قبل الميلاد.. يعنى من قبل 4136 سنة فقال لى فى خطابه: المملكة بأكملها تعتمد على حكمك الرشيد وإنه لما يغبط القلب أن ترى العمال مشغولين بعملهم، لكن من الخطأ أن تطلب منهم الكثير فمن شأن هذا أن يجعلك غير محبوب. وسوف يمحو ذكراك وذكرى أسلافك لأنهم يعتمدون على محبتك.
لتكن عادلاً نحو المواطنين المقيمين فى البلد، فأنت عنهم مسئول. لتحكم بالعدل فى بيتك، لكى يخشاك النبلاء الذين يملكون السلطة على الأرض. أحكم بالعدل ما دمت باقيا على الأرض. وآس الباكين ولا تضطهد أرملة أو يتيماً، ولا تحرم رجلاً من مال أبيه، ولا تعزل القضاة من مناصبهم دون أسباب مشروعة ومعقولة. أسأل: وهل كان المصريون من أفراد الشعب يرضون بالظلم إذا وقع؟ قالوا: أبداً والدليل ما فعله خنوم الفلاح الفصيح عندما ظلمه حاكم وادى النطرون فى عهد الدولة الوسطى قبل نحو 35 قرناً من الزمان عندما ذهب إلى قصر الملك ووقف خلف أسواره يصيح بالصوت الحيانى «يامولاى اقطع دابر اللصوصية وارحم البائسين واحم المساكين ولا تكن إعصارا يطيح بمن جاء يشتكى مظلمته قل الحق وأنشر العدل فالعدل قوة والحق شىء عظيم فكلاهما راسخ رسوخ الجبال الشوامخ. شكوت أمرى إليك، فلم تصغ الى طلبى وصممت أذنك عن شكواي. ولذا فإنى أرفع أمرى منك الى الإله الأعظم ربى وربك ورب العالمين. قال تحتمس الثالث: قد نال خنوم الفلاح الفصيح حقه عندما سمع الملك شكواه وأمر بأن يحاكم حاكم الإقليم وأن تعود أرض خنوم وماشيته إليه. قلت: وهل كان حكام الأقاليم مثل حاكم وادى النطرون الذى ظلم الفلاح الفصيح؟. قالوا: بالعكس كانوا مثالا للعدالة والمساواة بين الجميع .. كما قال الحكيم بتاح حتب: «إن وضع العراقيل أمام القوانين وعدم تنفيذها يفتح الطريق أمام العنف ليدخل إلى الدار».. يقف رجل طويل مثل قلم الرصاص ليقدم نفسه إلينا قائلا: أنا أحنيما حاكم الإقليم السادس فى عهد الملك سنوسرت الثالث الذى حكم مصر قبل 3881 سنة . إنى لم أستعمل القوة مع أى ابنة من بنات الأهالى، ولم أظلم أى أرملة ولم أقبض على عامل ما ولم أطرد راعياً من أرضه .. ولم يكن هناك رئيس أخذت منه عماله أثناء العمل .. ووقف حاكم إقليم «جبل الحية» فى أسيوط يقول: لقد كنت فى حياتى رجلا ورعا وذا تقوى ودين وقد أحبنى الناس كما دعت لى أمهاتهم بالخير.. فقد كنت أرعى وأحمى شيوخهم وعجائزهم وكنت أطعم الجائع وأكسو العارى. ووقف حاكم آخر يقول: «لقد أعطيت خبزا للجائع، وثياباً لمن كان عارياً بفضل ما وجدته فى هذا الإقليم .. لقد أعطيت قدرا من اللبن ومكيالاً من الغلة الآتى من «الوقف الأبدى» للجائع الذى كنت أجده فى إقليمى لقد رددت بنفسى نيابة عن كل إنسان وجدته وليس لديه «غلال» من «الوقف الأبدى» «لقد كفنت كل إنسان لم يكن له أى أقمشة من الكتان الأبيض». قلت: لقد قرأت فى نقش بأحد المعابد كلمات لأحد الحكام قال إنه أنقذ الأرملة وواسى المتألم، ودفن المسن وأطعم الطفل ووقف إلى جانب مدينته فى زمن الجدب، وهو الذى أطعمها فى وقت القحط وهو الذى زودها بسخاء بلا تمييز فكان عظماؤها فى ذلك مثل أصاغرها. قلت للملوك والأمراء والوزراء والحكام الجالسين من حولى: وإذا كانت الدولة المصرية القديمة كانت تضم وزيراً فى البداية، ثم وزيرين مع حكام الأقاليم ورئيس الجيوش والكاهن الأعظم الذى كان يؤدى مهمة وزير التعليم الآن ووزير التموين الذى كان يشرف على خزائن الغلال والحبوب.. فقد كان هناك قضاة يعينهم الملك بنفسه، وقد قرأت فى كتاب «حقوق الإنسان فى مصر الفرعونية» للدكتور محمود سلام زناتى: إنه كانت هناك شروط معينة ينبغى توافرها فيمن يشغل منصب القاضى. كما كانت هناك قيود على حرية القاضى فى الاتصال بالجماهير رغبة فى قيام القضاة بمهمتهم على الوجه الأكمل .. بل إن قانون حور محب اشترط اختيار القضاة من أحسن الناس سيرة وأكرمهم خلقاً . كذلك حرم على القضاة أن يصادقوا أحداً من الناس أو يتهادوا مع الناس أو تكون بينهم وبين الناس معاملات مادية. الملك رمسيس الثالث..الذى تآمروا علية! قالوا: هذا صحيح تماماً.. بل إنه للحفاظ على نزاهة القضاة جاء تشديد العقوبة على القاضى المرتشى أو المنحرف وعلى شاهد الزور أيضاً فقد عاقب حور محب القاضى المرتشى بعقوبة الموت. يتكلم الملك رمسيس الثالث: فى قضية المؤامرة التى دبرها حريم القصر ضدى وبعد أن شكلت الدائرة الأولى من القضاة لمحاكمة المتهمين وبعد أن تبين أن نساء الحريم عقدن معهما أواصر الصداقة .. وقمن بزيارتهما مع أحد كبار المذنبين وقاموا بعمل «بيت للجعة» أى استمتعوا بمجلس شراب. وكان عملهما هذا خيانة للثقة التى وضعتها فيهما .. ففقدا بذلك آيات العطف الجميل الذى كنت أسبغه عليهما عندما عينتهما قاضيين وطبقت عليهما الحكم الرادع وأصدرت عليهما العقوبة بصلم أذانهما وجدع أنفيهما.. كذلك كان شاهد الزور يعاقب عقاباً صارماً يتمثل فى صلم أذنيه وجدع أنفه ونفيه إلى مناطق نائية. أسأل: وهل كانت المرآة المصرية مساوية للرجل فى الحقوق والواجبات وأمام القانون وفى ساحة القضاء؟ قالوا: ألم تقرأ ما قاله مؤرخكم ماسبيرو أن المرأة المصرية من الطبقة الدنيا والمتوسطة أكثر احتراماً وأكثر استقلالاً من أية امرأة أخرى فى العالم. ولقد كانت المرأة شأنها شأن الرجل. أهلا لتملك أموال خاصة بغض النظر عن طبيعة هذه الأموال وكونها منقولات أو عقارات. وسواء كانت العقارات بيوتاً أم أراضى. وكان من الممكن للمرأة اكتساب هذه الأموال بطرق مختلفة كميراث أو هبة أو شراء. كذلك كانت المرأة شأنها شأن الرجل تتمتع بأهلية أداء كاملة بمجرد بلوغها سن الرشد.. فكانت المرأة تبرم تصرفاتها المختلفة منفردة دون معاونة من ولى أو وصى .. بل إن المرأة المتزوجة كانت تتصرف فى شئونها دون الحاجة الى موافقة أو إذن من زوجها.. كذلك كانت المرأة، شأنها شأن الرجل أهلا للشهادة وكانت التصرفات القانونية تتضمن أسماء شواهد من النساء جنباً الى جنب مع أسماء الشهود من الرجال. كما كانت المرأة أهلا للإدلاء بشهادتها أمام القضاء سواء كان ذلك فى الأمور المدنية أم الجنائية.. قلت: طيب والزواج والطلاق؟ قالو: فيما يتعلق بعقد الزواج كانت المرأة تتمتع بالحرية نفسها التى يتمتع بها الرجل من حيث اختيار الطرف الآخر وإبرام عقد الزواج معه.. وكان للزوجة حق فى الطلاق مماثل تماماً لحق الزوج .. فقد اعترف القانون المصرى القديم لكل من الزوجين بالحق فى إنهاء الزواج بمحض إرادته ودون الحاجة الى توافر سبب يبرره بل ودون حاجة الى عرض الأمر على القضاء. كذلك كانت المرأة تتمتع بالحقوق نفسها التى للرجل بالنسبة للميراث .. فالبنت ترث جنباً الى جنب مع الابن ونصيبها مثل نصيبه .. وإذا لم يكن للراحل سوى بنت واحدة آلت إليها التركة بكاملها. قلت: ياه .. دى الست زمان كانت أحسن من دلوقت بكثير! 00000000000 ولأننا نعيش هذه الأيام عصر الواسطة والمحسوبية وكارت التوصية ومن له ظهر يحصل على كل شيء ومن ليس له ظهر ينتظر حتى يجيء الفرج ولو يوم القيامة.. فقد سألت: هل كانت عندكم محسوبية فى تعيين الموظفين؟ يرد الملك تحتمس الثالث هذه المرة: لقد قلت لوزيرى رخمارع: أنظر ليس معنى أن يكون المرء وزيراًِ أن يكون ناعماً بل أن يكون حازماً «ورجلاً» كما يدل على ذلك اسمه .. انظر لاينبغى التحيز للعظماء ولاينبغى استعباد كائن من كان .. أنظر الى من تعرفه كما تنظر إلى من لاتعرفه. قلت: لقد قرأت لأحد حكام الأقاليم واسمه «أمينى» من الدولة الوسطى والنقش مدون على باب مقبرته فى بنى حسن قال «عندما كانت تحل بالبلاد سنون مجدبة أحرث كل حقول مقاطعة الغزال «يعنى مقاطعته» إلى حدودها الجنوبية وإلى حدودها الشمالية، محافظا بذلك على حياة أهلها ومقدماً لهم الطعام حتى إنه لا يوجد بها جائع قط. وقد أعطيت الأرملة مثل ذات البعل، وإنى لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الفقير فى أى شىء أعطيته» ويحكى موظف كبير اسمه مآن عاش فى عصر الملك سنفرو، أنه اضطر رغم كونه قريباً ملكياً إلى أن يشق طريقه جاهداً حتى ارتفع من أسفل وحلق فى الدرجات العالية. فقد كان فى بادىء الأمر «كاتباً لبيت الطعام» ثم ارتفع تدريجياً إلى أن أصبح «رئيس منطقة» ووكيلاً لقاضى الزراعة فى أحد أقاليم غرب الدلتا، وبعد أن شغل مراكز عدة صار محافظا لنحو اثنتى عشرة مدينة كبيرة فى الدلتا. ويروى لنا «باك أن خنسوا» وهذا هو اسمه قصة حياته الوظيفية فيقول: «قضيت أربع سنوات كطفل صغير، وقضيت اثنتى عشرة سنة كشاب رئيساً لاصطبلات التدريب.. وبعدها ذهبت مباشرة إلى المعبد حيث أصبحت كاهن «سكائب» وكنت عندئذ فى السادسة عشرة. فقضيت فى هذا المنصب أربع سنوات وفى سن العشرين أصبحت أباً مقدساً وظللت فى هذه الوظيفة اثنتى عشرة سنة، ثم عينت فى وظيفة كاهن ثالث لأمون مدة خمس عشرة سنة .. ثم كاهناً ثانياً لآمون مدة اثنتى عشرة سنة وأخيراً حين قاربت السبعين وصلت الى أعلى الوظائف جميعاً، وهى وظيفة الكاهن الأول أو الكاهن الأكبر. قالوا: يعنى لا محسوبية ولا كارت توصية! 000000000000 أسأل: وهل كان الشعب المصرى إذا وقع عليه ظلم ما يسكت ويصبر وينكت على ظالميه ويدعو عليهم ويكنس عليهم السيدة زينب والإمام الشافعى كما يفعل البعض الآن فى بلدنا؟ قالوا: أصدق مثال قصة الفلاح الفصيح خنوم الذى ثار على ظلم الحاكم .. بل إن الثورة هى آخر ورقة فى جعبة الشعب الصبور عندما يفيض به الكيل.. أسأل: هل حدثت ثورات فى عهودكم؟ قالوا: ليست ثورات بالمعنى الذى تعرفونه أنتم بل مجرد احتجاجات. بل فى العصور المتأخرة .. فقد حدث فى عام 1170 قبل الميلاد .. يعنى منذ 3186 سنة .. جاء فصل الخريف وانحسرت مياه الفيضان. وكان عمال الجبانة فى طيبة جائعين ولم يتسلموا مخصصاتهم ودفع بهم الجوع الى القيام بتدابير احتجاج وصلتنا أخباره . فى هذا اليوم اخترق فريق الأعمال فى الجبانة الأسوار الخمسة صائحين: «نحن جياع». وجلسوا خلف المعبد .. كان المعبد الذى جلسوا خلفه هو معبد تحتمس الثالث وجاء إليهم الرؤساء الثلاثة ومساعدوهم ليحملوهم على العودة الى داخل حرم الجبانة، وأقسموا أيماناً مغلظة «يمكنكم أن تعودوا فمعنا أمر الملك» ولكن الوعد باسم الملك لم يكن كافياً وقضى العمال يومهم الى جانب الحائط الخلفى للمعبد، ولم يعودوا الى منازلهم إلا عندما حل الليل. وخرجوا مرة ثانية فى صباح اليوم الثانى، وفى اليوم الثالث تجرأوا وهجموا على معبد رمسيس الثانى وعند ذلك هرع إليهم عدد كبير من الصرافين والحراس والشرطة .. ووعدهم كبير الشرطة بأنه سيرفع الأمر الى عمدة طيبة، الذى كان قد فضل الاختفاء عن الأنظار، وكان المضربون مصممين على موقفهم ولكنهم لم يخرجوا على النظام، وكان هجومهم على المكان المقدس ذا أثر فعال أكثر من جلوسهم السابق خلف السور، واستمع الموظفون إلى احتجاجهم «لقد جئنا إلى هذا المكان بسبب الجوع، وبسبب العطش، فنحن بدون ثياب وبدون زيت وبدون سمك وبدون خضراوات .. أكتب إلى فرعون سيدنا الطيب وأخبره بذلك، أكتب إلى الوزير الذى يشرف علينا افعل ذلك لكى نعيش وفتحوا لهم الخزانة الملكية. وصرفوا لهم مخصصات الشهر السابق». من منا ياترى فى هذا الزمان يفهم ويدرك ويتعظ؟ اسمعوا لما قاله لى المؤرخ العظيم تيودور الصقلي: «فى آخر أيام الحداد على الملك يضعون النعش الذى يضم مومياء الملك أمام مدخل القبر ويشكلون طبقاً للطقوس محكمة تنظر فيما قدم الراحل من أعمال فى هذه الحياة الدنيا.. وقد أباحوا لمن شاء أن يتهمه.. أما الكهنة فتؤبنه معددة مناقبه وألوف الناس التى اجتمعت لتشيعه تنصت إليها وتشترك فى تأبينه، هذا إذا كان الراحل قى قضى حقا حياة مجيدة.. أما إذا كانت حياته على العكس وضيعة تصايحت الجماهير.. وقد حرم كثير من الملوك حق الدفن الرسمى الذى تخوله لهم الشرائع نتيجة لإعتراض الشعب، ولذلك كأن من يخلفونهم على العرش يقيمون العدل خوفاً من العار الذى يلحق بأجسادهم بعد الموت، ومن اللعنة الأبدية فى كتب التاريخ! أترك الملوك والأمراء والوزراء يذهبون لحال سبيلهم بعد أن حكموا وملأوا الأرض حقاً وعدلاً وخبزاً وشبعاً.. أتذكر ما قاله حكيم زمانه أمينوبى العظيم: لاتعط كل اهتمامك لمن يرتدى الكتان الأبيض الناعم، ولاتقبل أى هدية من أجل أن تضطهد فقيراً من أجله فالعدل عظيم وعقاب الرب شديد، فلا تصطنع لنفسك اعمالاً سيئة تكون فى انتظارك يوم الحساب!!. يا سلام .. كم أنتِ عظيمة يا مصر والجملة لى أنا! ---------------------------------------------------------------- كانت المرأة تتمتع بالحقوق نفسها التى للرجل بالنسبة للميراث .. فالبنت ترث جنباً الى جنب مع الابن ونصيبها مثل نصيبه .. وإذا لم يكن للراحل سوى بنت واحدة آلت إليها التركة بكاملها.