في مواجهة سعي قوي سلفية الي وضع دستور يؤسس لإقامة دولة دينية رائدها إحياء دولة الخلافة, وانطلاقا من التفكير في المصلحة الوطنية المصرية وحقيقة أن الأمة المصرية قد تكونت ووعت بذاتها وقدست حدود دولتها طوال آلاف السنين, دعوت لأن يستهدف دستور الجمهورية الثانية بعد ثورة25 يناير إقامة دولة المواطنة وأن يصدر باسم الأمة المصرية. فقد طرح سلفيونا- كمسألة جوهرية ومبدئية في نظرهم- مسألة إعلاء الهوية الدينية للدولة في برامج أحزابهم الدينية وفي مناقشات الجمعية التأسيسية للدستور; منطلقين من فرضية خاطئة بأن فخر المصريين بالانتساب الي أمتهم المصرية وإعلائهم لرايتها الوطنية يهدد العقيدة الإسلامية؟؟ ومن المدهش أن يبعث مجددا وبقوة- بعد نحو قرنين من عودة الوعي الي المصريين مجددا بهويتهم الوطنية وتأسيس الدولة المصرية المدنية الوطنية الحديثة خطاب سلفي يتنكر للهوية الوطنية وينبذ لدولة المواطنة!! ومن المؤسف أن الفخر بحضارة مصر والمصريين الفرعونية والقبطية والاسلامية في مقال مهم للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين لم يجد صدي في خطاب الجماعة وحزبها, أو في خطاب الرئيس مرسي, بل ولم يبرز خطاب إخواني وطني ضد مرتكبي جريمة رفح الإرهابية الذين رموا جند مصر بالكفر!! ومن أجل فهم أسباب وعواقب الردة الي تاريخ فقد فيه المصريون الوعي بهويتهم الوطنية; عرضت لاجتهاد الدكتور صبحي وحيدة في أصول المسألة المصرية; وملخصه أن المصريين- قبل وبعد الاسلام- وانطلاقا من تدينهم منذ فجر التاريخ, قد فقدوا الوعي بهويتهم الوطنية في سياق تمييزهم بين الناس علي أساس عقيدتهم الدينية, حتي حاربوا من اعتبروهم خصوما لدينهم; وإن كانوا مصريين!! بل إن كوارث الحكم الأجنبي الظالم وتعاقب انهيار دوله لم تبعث في نفوس مفكريهم شعورا بكرامة وطنية ديست أو عزة قومية جرحت!! وأظن أن سياق عودة الوعي بالهوية الوطنية في الواقع والفكر المصري الحديث كما يسجله ويحلله صبحي وحيدة يحمل تفسيرا جديرا بالنظر لجذور الزعم بتناقضه الموهوم مع الإسلام والعروبة. فنقرأ لصبحي وحيدة أنه قد قام علي أنقاض النظام المملوكي, الذي كان يتنفس في جو الخلافة الإسلامية, وإلي جانب الأسرة العلوية الحاكمة: جيش أهلي, وطبقة موظفين وطنيين, وطائفة ملاك زراعيين محليين; أي ظهرت مصالح أهلية تنفرد بأوضاعها الخاصة, وتصدر في تحركها عن نفسها. ونشعر بظهور هذا المجتمع الجديد فيما يذكره الجبرتي عن الكبرياء التي كان يثيرها الثوب العسكري فيمن كان يجندهم محمد علي من أهل الريف وفقراء المدن, وما قاله المؤرخون الفرنسيون عن النعرة المصرية التي كانت حملات الشام تثيرها في جند إبراهيم!! وما تردد من معاني الوطنية في مؤلفات رفاعة الطهطاوي, وخاصة في كتابه' مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية', وفي مؤلفات علي مبارك, وغيرهما. ويتجه هذا المجتمع المصري الجديد قليلا قليلا إلي الشعور بتمايزه عن المجتمعات الأخري, إسلامية كانت أو غير إسلامية; أي يتجه إلي تكوين ما ندعوه بالوعي الوطني. فيكتب رفاعة الطهطاوي في الوطنية والتاريخ المصري القديم وواجب العمل لرفاهية مصر, وهو أمر لا نجده في كتابات الجبرتي مع قرب العهد بينهما. وقد كان رفاعة الرائد الأول للمصريين في تأجيج عاطفة الوطنية القومية, إذ أحب مصر حبا قويا ملك عليه نفسه, فكان معظم شعره قصائد ومقطوعات وأناشيد وطنية لم يسبق إلي مثلها أحد من المصريين, وشملت كتبه فصولا تتحدث عن الوطن والوطنية وتحليل معانيهما. وإستخدم علي مبارك لفظ' مواطن' للتفريق بين أهل البلاد وغيرهم, واستعمل عرابي لفظي' المصريين' و'الأمة المصرية' بمعنيهما الحديث, وعد من ليسوا من أهل البلاد- مسلمين أو غير مسلمين- أجانب, لا يحق لهم أن يحكموها, وهو ما لا نجد له أثرا في التفكير المصري منذ أن احتضنته الموجة المسيحية. لكن الطهطاوي يكتب في الوطنية المصرية, ويبقي إسلاميا قبل كل شئ, ويقرب علي مبارك عنه إلي الفكرة القومية, لكنه لا يظهر وعيا مصريا كاملا, ويحيط عرابي الشعب المصري بغلاف عربي إسلامي. وتلقي الأسرة العلوية بذور هذا التحول باتجاهها الانفصالي عن الإمبراطورية العثمانية لتثبيت حكمها. ورغم ترددها بين الفكرة العثمانية والفكرة العربية, أحس محمد علي بالفروق الكبيرة بين مصر وسائر السلطنة العثمانية, وفاقه إبراهيم في هذا الشعور. وينشئ الأول الجيش الذي ثار علي الشراكسة أيام عرابي, ويرسل البعثات العلمية التي نشرت الوعي الوطني الحديث, ويغذي الثاني حركة الخروج السافر علي الإمبراطورية العثمانية. وكان عباس وسعيد وإسماعيل من رجال السلطنة العليا قبل أن يكونوا شيئا آخر, وكان ثلاثتهم بعيدين عن الشعور بقومية مصرية صحيحة; بعد أهل البلاد أنفسهم عنها. لكن سعيدا- بتقريبه أهل البلاد إليه وإعادته اللغة العربية لغة رسمية- يبعث الروح التي خرج منها عرابي, ويقضي إسماعيل حكمه عاملا علي إنشاء الارستقراطية الوطنية, التي ثارت في وجهه وإبنه توفيق!! وحتي مطلع القرن العشرين استمر الحكام يسمون المصريين أهل البلاد, وكان الأخيرون يسمون بعضهم البعض بالأهالي وأولاد العرب, كما كان الحال علي أيام الخلافة الإسلامية!! وكان الأفغاني يجوب البلاد الإسلامية يدعو أهلها لإحياء الإسلام, ويري في التدخل الغربي حربا صليبية جديدة وفي وحدة المسلمين قوة دفاعية ضد الاستعمار. وكان محمد عبده يري في استمرار الدولة العثمانية محافظة علي سلطة الدين وثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله!! وأن تأسيس الأجانب للمدارس في البلاد الإسلامية يستهدف هدم عقائد المسلمين!! وكان الشيخ رشيد رضا ينكر الروح القومية ويجدها بدعة مؤذية, ويري أن العصبية الدينية تعلو العصبية الجنسية, ويطالب بحكومة إسلامية, ويعلن أن الوطنية قد فعلت فعلها في غير أصحاب العمائم من المتعلمين; لأن أصحاب العمائم لا يعرفون لهم جنسية إلا في الدين!! ولا يري علاج علل مصر بنشر التعليم الحديث وإنما بالأخذ بأحكام دينها كما في أيام الخلفاء. وقد قاوم محمد علي هذه التيارات, وقاومها إسماعيل, ثم انتقلت المقاومة من الولاة إلي أهل البلاد, فكانت الثورة العرابية, حيث كان الجيش هو المنبت الأول للفكرة المصرية. لكن حداثة الوعي بالهوية المصرية وميوعته وتوزع أفكار أصحابه كانت وراء إخفاق دورته الأولي. وقد دخل المجتمع المصري بعد الاحتلال الإنجليزي دورا جديدا من أدوار التطور الذي أخذ بأسبابه منذ نهاية القرن الثامن عشر; بظهور الحركة الوطنية المصرية, لكنه استمر مجتمعا عربي وإسلامي الأفق والروح والتفكير. فنري مصطفي كامل رائد الحركة الوطنية المصرية الحديثة, الذي نشأ في بيئة علي مبارك وأول مصري اكتمل لديه الوعي المصري, يجهد في الملاءمة بين الوعي المصري والوحدة العثمانية. ونري نوابغ كتاب مصر, وغالبهم ممن اشتركوا في قيادة الحركة القومية, مثل عباس العقاد وحسين هيكل وطه حسين, يكتبون الصديق أبو بكر وعبقرية علي وعلي هامش السيرة, بل إن من يقرأ قبائل العرب في مصر لأحمد لطفي السيد يلمس فيه نعرة عربية بارزة. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم