لماذا يسافر الناس، أكثر من 700 كيلو متر، تحت الشمس؛ على الأسفلت والطريق الصحراوى القاحل؛ مدة 10 ساعات متوالية.. متجهين من القاهرة الى سيوة؟ ربما يبحث البعض عن معنى أو فكرة أو كنز أو وجه أكثر جمالا للوقت والأيام.. إلى وردة الصحراء وواحة الغروب سبقتك.. الى حيث تلمع عشرات النجوم فى السماء حيث يحلو البلح ويصفو الماء.. ويحكى البشر حكايات جديدة لم تسمعها من قبل؛ ويعيشون حياة أصلية: غير التى تعودت انت عليها.. فى سيوة قصص لو سمعتها.. عرفت قيمة الاصغاء الى خلق الله فى بلاد الله.. حين تصل الى هنا، ستتأكد أن الأمر يستحق السفر ويستحق عدم الالتفات لبعد المسافات! (1) جنيه ذهب مر رجل على مجموعة من الناس فقال لهم سلام عليكم يا أهل ال 100 فقالوا له عددنا ليس 100 نحن وقدنا ونصنا وربعنا وانت معنا، نبقى 100 اذن كم عدد هؤلاء الناس؟ فزورة عابرة سريعة؛ قالها المذيع الشهير للجمهور الذى احاط به فى الشارع؛ و احدث ضجة وزحاما.. كان الجميع يحسب ويفكر.. ويخمن ويجرب؛ ربما ابتسم له الحظ وعرف الحل الصحيح وكسب الجنيه الذهب. لكن كل الاجابات كانت غير صحيحة.. حتى تقدم شاب صغير اسمه احمد السنوسى، وقال انا اعرف الحل.. سأله المذيع فى سخرية: انت الذى عرفت.. اذن وجدنا الرجل الذى سيكسب الجنيه الدهب. - قل يا سيدى ما عددهم؟ - أجاب أحمد، 36 أسقط فى يد المذيع.. كيف لهذا الشاب الذى يبدو بسيطا او ربما قرويا ساذجا ان يعرف اجابة السؤال الصعب؟ هو قطعا ليس أينشتاين لابد انه غشاش.. صرخ المذيع وقال، انت سمعتنى فى مكان آخر من قبل.. انت نصاب..ولن نصور تلك الفقرة ( اتكل على الله من هنا.. مفيش جوايز) شعر أحمد بصدمة واهانة بالغة.. انها اول مرة يرتدى القميص والبنطال ويترك سيوة ويسافر الى القاهرة فى زيارة عمل.. كيف تستقبله القاهرة هذا الاستقبال المخزي؟؟ لقد كان يعرف الاجابة الصحيحة لأن اخاه الاكبر سبق ان قال له نفس الفزورة نفسها وهو صغير، كى يدربه على الحساب ويسرى عنه اثناء عملهما فى الغيط.. انه لا يكذب ابدا، فكيف يتهم جزافا بين الناس هكذا بالغش والنصب؟! انسحب الشاب ثم اكمل طريقه الى حيث كان يتجه من البداية.. الى المعادى وبيت الرجل الفرنسى الذى كان نزيلا فى سيوة، بالفندق الذى يعمل به أحمد حين وصل أحمد للعنوان المقصود ومعه الكتب والاغراض التى طلبها الرجل الفرنسى، كان حزينا وصامتا وكأن خنجرا فى قلبه،.. بعد نصف ساعة من مكوثه سأله الرجل الفرنسى عن سبب سوء مزاجه وحاله.. فحكى له ما جرى. كان الرجل يعرف أحمد جيدا، وقد نشأت بينهما علاقة محبة واحترام، مدة اقامته فى سيوة. الاخلاص فى المعاملة وصدق الود وكرم الضيافة؛ يجدها الاجانب بسهولة فى اهل الواحة، وهذا ماكان متوافرا عند هذا الشاب على وجه الخصوص.. اختفى الرجل الفرنسى فى غرفته فترة، ثم خرج واعطى للشاب السيوى هدية للتذكار قبل السفر (بروش ذهب) مناسبا لرابطة العنق التى سيذهب بها أحمد الى جامعته (البروش) كان فى غاية التميز والاناقة، وكان أكبر فى قيمته المادية والجمالية؛ من الجنيه الذهب سبب الازمة والمشكلة! أحس أحمد بالرضا والسعادة والتعويض.. قبل الهدية واصبح البروش من يومها ايقونة؛ ومكونا أساسيا فى ملابسه الرسمية؛ من يراه وهو يضعه فى صدر بدلته، يظنه استاذا جامعيا. عاد أحمد الى سيوة فى اجازة نهاية العام، لكنه كان لا يتابع مطلقا برامج التليفزيون ولا يصدقها.. خاصة برنامج الجنيه الذهب!!! (2) الصابون الأسود الحروب ليست كلها شرا فقد تتسبب فى السفر والفرار وانتقال الناس من أرضهم لأرض جديدة.. وقد يجدون حياة اخرى مختلفة ويتعرفون بشعوب وعادات وأفكار تضيف الى قيمة حياتهم على المدى الطويل.. هكذا أرادت السيدة ( z ).. ان تفلسف ما يحدث لها؛ كى تسهل على نفسها الأمور وتنجو من الفزع والموت؛ وتجد فرصة اخرى وتواصل الحياة. هى ابنة رجل من اثرياء البترول فى ليبيا، تزوج 4 مرات وكانت احدى زوجاته مصرية. كان رجلا محبا للحياة والثقافة والسينما والسفر.. وكان عطوفا على اولاده، يأخذ معه عائلته اينما يرتحل.. زارت معه بلاد الدنيا وعرفت مسارح أوروبا منذ طفولتها.. لكن الامر تغير بعد زواجها ووفاة والدها، وتغير اكثر بعد وفاة زوجها الطبيب وهجرة ابنتها الوحيدة الى كندا؛ واشتعال الحرب فى بلادها وانتشار داعش والفوضى ورائحة البارود والخوف والموت أقرب ما يكون. هواية التصوير الفوتوغرافى كادت تورطها بالصدفة فى كشف وجوه مهمة؛ فى تجارة السلاح والتهريب والمخدرات. لكنها امرأة وحيدة وعاقلة؛ تكتمت اسرارها وقررت الهجرة. اهل طرابلس لا يحبون مغادرة بلادهم حتى وان قامت الحرب.. لذا لم يساعدها احد كل من تعرفهم كانوا يقولون لها ( عيشى فى بيتك وزيك زى الناس ).. لكنها اتخذت قرارها وسافرت الى تركيا.. حاولت ان تعمل هناك بالتجارة، كانت المنافسة شرسة وفوق امكاناتها لم تفسح لها السوق مكانا، ولم تكن امامها اى فرصة، خاصة انها لا تتحدث اللغة التركية بشكل جيد. حاولت ان تتعلم شيئا مفيدا، قبل ان تغادر.. فتعلمت صناعة الصابون اليدوى، من شارع المصريين فى تركيا! اكتشفت انها تحب صناعة الصابون فهى مزيج من الطهى والصيدلة والفن والعطارة. صابون الحليب وصابون زيت الزيتون وصابون بالشاى الاخضر ودهن الجمل وصابون عطرى بالليمون.. لكن اكثر ما ابدعت فيه، صابون الزهور والحمام المغربى ذو اللون الداكن وشهرته ( الصابون الاسود ).. شيء فى هذا المزيج العطرى الحالك، كان متشابها مع حياتها (! ) اشترت المعاصر والافران وكافة المواد والزيوت والادوات اللازمة؛ وارتحلت الى تونس كى تبدأ عملها الجديد.. لكنها لم تجد ترحيبا وشعرت بالغربة الشديدة، ولم تنجح محاولتها. سمعت عن الفيوم فى مصر؛ وفكرت ان تجارتها فى الصابون اليدوى قد تروج، بسبب السياح المترددين على المنتجعات الهادئة هناك. لكن تقديرها لم يكن فى محله؛ وواجهت هناك كل اسباب الفشل الذريع! بل انها تعرضت للقتل بسبب جارة لها، دأبت هى وزوجها على مراقبة (السيدة z) وتحركاتها؛ و قدرت انها غريبة وتعيش وحدها وسيدة من ليبيا؛ لابد أنها فرت من الحرب ومعها ثروة من المال؛ وحتى الماكينات الضخمة والافران التى تضعها فى الشقة؛ قد تساوى رقما مغريا ان تم الاستيلاء عليها وبيعها. خططت الجارة لاقتحام الشقة مع زوجها، وكانت السيدة ( z ) صانعة الصابون الاسود قد شعرت من مدة بالقلق الشديد، بسبب اسلوب الجارة ونظراتها التى تنضح بالطمع والشر، وبسبب ندائها اللحوح وطرقاتها العنيفة على باب الشقة؛ اتصلت واستغاثت بالشرطة وأنقذها ضباط البوليس من القتل فى اللحظات الاخيرة؛ وأمنوا خروجها مع منقولات بيتها الى مكان جديد. كان متوقعا جدا ان السيدة z سوف تغادر مصر بعد هذه الواقعة المفزعة؛ لكن العكس حدث. فقد شعرت السيدة الليبية الوحيدة بأن فى مصر شرطة قوية؛ تستطيع ان تحميها، وانها ستظل فى امان مادامت هى داخل حدود مصر. جمعت اشياءها وذهبت الى واحة سيوة؛ اقرب ما تكون للحدود مع ليبيا وحيث عرفت ان بها حياة بسيطة وناسا طيبين ومنتجعات سياحية كبيرة، قد تطلب منتجاتها اليدوية القيمة؛ لنزلائها من السياح والأجانب. هذه المرة نجحت المحاولة، ووجدت صانعة الصابون الأسود أخيرا، اقامة آمنة وارضا طيبة، وعملا ناجحا وتجارة لا تبور. اخيرا وصلت الى النور فى نهاية النفق. هى الآن فى سيوة. استقر مقامها وذاع صيتها وراجت تجارتها.. وعملها مستمر؛ بل انها صارت تفكر ان تكتب كتابا يحكى رحلتها؛ ويفصح عن ايام صعبة اختلطت مع الزهور وزيت الزيتون واعشاب الشاي؛ وصارت فى النهاية عبوات جذابة من الزجاج الداكن الكتوم، ممتلئة بمرطبات الوجه المجهد؛ والصابون! ( 3 ) رامز و جعفر الى هذه العين الطبيعية للماء العذب الدافئ؛ المتجدد تلقائيا من باطن الارض؛ جاءت ملكة بلجيكا منذ سنوات قريبة؛ ومثلها حفيدة نابليون وولى العهد تشارلز مع زوجته كاميلا؛ وعدد من ابناء الرؤساء ونجوم هوليوود واشهر المغنين فى العالم.. بعضهم يعرف عن سيوة مالا يعرفه كثير من المصريين. فى جبل جعفر تحديدا؛ إقامة فاخرة، خاصة جدا، لمحبى الطبيعة وسحر البساطة والصحراء. عين المياه صارت( حمام سباحة طبيعى ) يستمتع الضيوف بالعوم فيه. احد الفنانين الامريكيين التقط مؤخرا صورا لنفسه يعوم فيها؛ ويسترخى على ظهره بالجلباب الامازيغى الابيض الذى يرتديه الرجال فى سيوة. (نور القمر وضى النجوم ) فوق جبل جعفر، ليسا شعرا او جملة رومانسية عابرة فى رواية؛ لكنهما بالفعل مصدر الطاقة والاضاءة حين يحل الليل؛ مع بعض الشموع المصنوعة يدويا من شمع عسل النحل! هذه المنطقة من العالم؛ تعيد اكتشاف النار بالحطب حين تطهو الطعام.. ولا تسمح لأحد فى العالم ان يعتدى على الخيال والصفاء النفسى عند النزلاء.. فلا وجود للتليفزيون ولا اجهزة التكييف ولا التليفون.. لا شيء يعمل بالاسلاك هنا.. اصلا لا يوجد كهرباء! ربما كان افضل ان تغنى.. لا تعتمد على اذاعة او برنامج موسيقى داخلى.. هنا الهدوء وهيبة الصمت. مرحبا بك فى فندق جبل جعفر! والآن اقدم لكم بطل الحكاية، المهندس رامز، احد اهم المسئولين عن الصيانة والادارة وكل متطلبات الهندسة البيئية فى هذا المكان الضخم. وهو واحد من 7 مهندسين خاضوا انتخابات النقابة الاخيرة، وفازوا فيها.. لكن عند التنفيذ، لم يمكنهم احد من القيام بمهامهم وتسلم مكان العمل، وقد صارت نقابة المهندسين بالقاهرة من يومها عنوانا فى صفحات الحوادث بالصحف اليومية، بسبب الصراع والمتاهات القانونية والبلاغات، وطرافة المشهد ما بين قوة الامر الواقع والرابضين فى اماكن لا يريدون ان يغادروها؛ وحيرة الفائزين فى انتخابات؛ تمت ولكن، كأنها لم تكن، و لم تغير من الأمر شيئا! يترك رامز القاهرة بزحامها وضغوط الصراع فيها؛ ويذهب الى سيوة.. حيث متعة العمل فى ترميم بيوت التراث القديم؛ والبناء بالطين والملح وخشب الزيتون على طريقة السكان الاصليين التى كادت تنقرض من العالم ومن سيوة نفسها. يوم الجمعة فى فندق جعفر، يؤذن للصلاة، فيقوم موظف الاستقبال الشاب ليتوضأ ويستعد للصلاة فى مكانه.. لكن المهندس رامز يقول له ( تستطيع ان تذهب للصلاة فى الجامع وانا سأقف مكانك واباشر العمل حتى تعود ) يتحرج الموظف الصغير من هذا العرض الكريم لكن رامز يصر.. ويقف فى الاستقبال و يستمر العمل وصوت المؤذن والخطبة ودعاء الجمعة يصله بوضوح. بعد انقضاء الصلاة يعود الموظف لمكانه؛ فيجد على وجه المهندس رامز ابتسامة ويقول له، ( بقى يا راجل انا اقولك روح صلى، واقف مكانك واكمل الشغل، تقوم تروح تدعى عليٌ وعلى ولادى وتتمنى لى الاذى والعذاب والموت؟؟) اندهش الموظف الشاب، لدرجة اخرسته فيما يشبه الصدمة.. اخيرا ابتلع ريقه وتماسك وسأله، كيف حدث ذلك ياباشمهندس؟؟ متى دعوت عليك لاسمح الله أو على أولادك؟ اجاب رامز، انا سامعكم والخطيب بيقول، اللهم اهلك النصارى وانتقم منهم وانزل عليهم وعلى ذريتهم لعنتك... وارنا فيهم يوما.. وهلم متجرا... دعوات فظيعة جدا.. وانتم تقولون ( آمين )! تنبه الموظف الشاب؛ وكأنه يفيق من حلم فجأة.. هو فعلا تعود ان يردد ( آمين.. آمين.....) وراء الادعية؛ دون تفكير طويل.. انه حتى لم يلتفت للمعانى التى قصدها خطيب المسجد هذه المرة.. ما الذى دفع خطيب المسجد اصلا؛ كى يقول هذه الكلمات القاسية وهذه الادعية ضد النصاري؟؟؟ .. لم ينم الموظف الصغير ليلته، وجرى على والده يسأله.. وكان والده شيخا حكيما ورجلا شديد الورع من حفظة القرآن الكريم؛ ومسموع الكلمة بين اهله فى الواحة. حكى له ما حدث فى الجامع وما لحق بالمهندس رامز حين سمع دعاء الخطيب عليه رد والده الشيخ وقال. ياولدى خطيب المسجد اليوم اخطأ واساء ولكن مثله لا يتراجع عن سقطاته ولايعتذر وتأخذه العزة بالاثم ويكابر هو اغلب الظن كان يقصد الغزاة والاعداء الذين يحاربون الشعوب المسالمة ويخربون البلاد العربية من الامريكان وغيرهم لكن التعصب والجهل والكراهية والحماقة لا تجعل هناك فارقا بين العدو الذى يقتل و الحبيب الذى يعيش معك وتعيش معه. قل للمهندس رامز؛ انك قطعا تعلم اننا نحترم دينك ونحبك ونتمنى الخير لاولادك ولكل مسيحى مخلص مثلك لكن الجهال اذا اعتلوا المنابر؛ اشعلوا النار وافسدوا حياة الناس.. انهم وباء على البلاد.. اكثر من اعدائها فى الخارج!