انسحبت الولاياتالمتحدة فى يونيو الماضى عام 2018، من عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، احتجاجًا على ما سمته المواقف المتحيزة تجاه إسرائيل، وراحت تفسر ذلك بأن المجلس يغص بمناهضى إسرائيل، كما أعلنت نيكى هايلى السفيرة الأمريكيةبالأممالمتحدة، أن بلادها قد انسحبت فى وقت لم تتحل فيه أى دول أخرى بالشجاعة للانضمام إلى معركتنا من أجل إصلاح المجلس المنافق والأناني، ثم أوضحت أن انسحاب بلادها ليس تراجعا عن التزاماتنا بشأن حقوق الإنسان؛ لذا جاء رد المقرر الخاص للأمم المتحدة فيليب ألستون، على انتقادات السفيرة الأمريكية مؤكدًا أن التناقض فى الولاياتالمتحدة مثير للدهشة، مفسرًا ذلك: بأن الولاياتالمتحدة لديها 25 %، أى ربع مليارديرات العالم، ومع ذلك يعانى أكثر من 40 مليون أمريكى الفقر الشديد. ترى هل تغدو الدعوة إلى الحقوق المفقودة بديلاً عن تجسيدها العياني، انطلاقًا من أنها تعد نوعًا من السيطرة على المجتمعات بصناعة الأوهام التى تحشد الجماهير، رغم الواقع المضاد الذى يدار بالبراهين النظرية والأوهام تحقيقًا للمشروع الوهمى فى تغيير العالم رفضًا لكل مساوئ الحاضر؟ لقد شغلت الولاياتالمتحدة مقعد عضويتها فى لجنة حقوق الإنسان منذ عام 1947، لكنها أيضًا خسرت مقعد عضويتها هذا، عندما أقصيت عنه فى مايو عام 2001، وذلك عبر انتخاب ديمقراطى استولد دلالات واضحة، كشفت الدلالة الأولى عن أنه لا سلطان للولايات المتحدة على أصوات المقترعين، الأمر الذى كانت تبدو استحالته نظرًا إلى أن أغلبية المقترعين أعضاء لدول متحالفة مع الولاياتالمتحدة، لكن الإجماع على إقصائها من لجنة حقوق الإنسان، يعنى أن ثمة اختلافات وتقاطعات قد طرأت على هذه التحالفات، وذلك ما يفتح بوابة التساؤلات عن أسباب تنحيتها عن عضوية لجنة حقوق الإنسان، أما الدلالة الثانية فتشير إلى أن عملية الانتخابات الديمقراطى التى جرت تبدت تحمل معنى أن واقعة الإقصاء هى اتهام للولايات المتحدة يستهدف فضح ادعائها المزعوم - وتحديدًا فى مجال حقوق الإنسان- بأنه مجال لا يشكل بالنسبة إليها همًا إصلاحيًا بقدر ما هو محض أداة ضغط للاختراق، يفضح ازدواجية سلوكها وتناقضاتها المعلنة، ففى حين يدوى إعلانها الدائم برعايتها الحصرية للسلام فى العالم، وحمايتها لحقوق الإنسان؛ إذ باعتراضها القطعى فى الأممالمتحدة على اتفاقية حظر صناعة الألغام المضادة للأفراد يتبدى دليلاً صارخًا على تناقض معاييرها، مع أن الاتفاقية لم تحظر صناعة الألغام المضادة للمركبات أو الدبابات أو التى يتحكم فيها عن بعد؛ وإنما حظرت نوعًا واحدًا يتحدد فى الألغام المضادة للأفراد التى يذهب ضحيتها المدنيون العزل الأبرياء، لكن الولاياتالمتحدة تحت إذعانها لعائدات مصانع الأسلحة تخلت عن المشروع النبيل، دون استبصارها بحكم القيمة الذى يفحص ويحدد غاية المشروع التى تؤسس له الاستحقاق. وفى ظل غياب ملابسات تنحية الولاياتالمتحدة عن عضوية لجنة حقوق الإنسان، تصور البعض أن تلك التقاطعات مع حلفائها، قد تكون مظاهر لصراع بين الأوربة و الأمركة، حيث عقب انتهاء الحرب الباردة وتفكك القطب الشيوعي، بدأت تتشكل رؤية للعالم تنطلق من نزعة أمركة مركزية، مستغلقة على نفسها بذاتية مطلقة، منحت نفسها حقًا عالميًا باحتلالها مكانة القطب العالمى الأوحد، فى حين تصور آخرون أن تلك الاختلافات أعراض التنافس على مناطق النفوذ، لكن اللافت الأكثر أهمية يتصل بما حدث فى الحادى عشر من سبتمبر، حين فجر تنظيم القاعدة- بجنون غير مسئول- الهجمات الإرهابية المدمرة بفواجعها الفظيعة إثمًا، حيث راح ضحيتها المدنيون العزل، وهو الأمر المحمول بالرفض الأخلاقى استهجانًا، والخطير تأثيرًا، لأنها نتيجة عطب فكري، بدل مسار التاريخ، وشكل منعطفًا جديدًا أطلق العنان لمتوالية كاملة من التحالفات والمصالح، قادتها الولاياتالمتحدة تحت اسم مقاومة الإرهاب، لتؤكد هيمنتها بوصفها القطب الأحادى الذى يحمى النظام العالمى ويدير مشكلاته، فأهدرت احترام سيادة الدول، حتى أصبحت الأوطان فضاءات مفتوحة أمامها بلا حدود تخترقها بالتجاهل لبنية العلاقات الدولية، فرضًا للحروب الاستباقية، بادعاء الوأد للإرهاب فى أوطانه، عندئذ انمحت راية حقوق الإنسان. صحيح أن مفكرى أمريكا، ومسئوليها السابقين حشدوا نصائحهم التحذيرية للإدارة الأمريكية، عقب الهجمات الإرهابية المأساوية برصد افتراضات محاور مستقبلية محمولة على الالتزام، لتحفظ للولايات المتحدة قوتها فى السياسة العالمية، التى تتبدى بالحفاظ على إنتاجية الاقتصاد الأمريكي، والحفاظ على القوة العسكرية الأمريكية؛ وأن تحاذر من الأحادية، وسلطة الانفراد، والغطرسة، وأن تتحاشى الأحداث الكارثية التى تدفعها إلى الانعزال عن العالم، وعليها أيضًا أن تفلت من قبضة الذاتية المطلقة، عندما تحدد مصلحتها الوطنية، مستعيضة عنها بسياق مفتوح وممتد، يحكمه بعد نظر يستوعب المصالح العالمية ولا يقصيها، لكن الصحيح أن الولاياتالمتحدة خالفت كل تلك النصائح وناقضتها، وراحت تمارس الانتهاكات كافة ضد حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية، تغييبًا للاستحقاقات المشروعة لمواطنيها؛ إذ إضافة إلى ما ذكره الأمين العام الخاص للأمم المتحدة فى رده على انتقادات السفيرة الأمريكية، بأن هناك أكثر من(40) مليون شخص يعانون الفقر الشديد، نضيف أيضًا أن هناك (48) مليون شخص يفتقرون إلى الغذاء الكافي، و(15) مليون طفل دون أب وتحت خط الفقر، و(560) ألف شخص بلا مأوى، و( 33) مليون شخص دون تأمين الرعاية الصحية، و (44) مليون عامل بالقطاع الخاص لا يتمتعون بالحق فى الحصول على إجازة مرضية مدفوعة الأجر. وقد أوضح الكاتب السياسى الأمريكى مايكل بارينتى فى كتابه ديمقراطية القلة، أن هذه القلة هى التى فرضت تبديد المفاهيم والحقوق والقيم الديمقراطية، وأيضًا طرح الكاتب الأمريكى موريس بيرمان فى كتابه غروب الحضارة الأمريكية، أن الحضارة الأمريكية فى ورطة يشعر بها ملايين الأمريكيين، وأن المعلومات التى تقدم لنا مضللة، وهذا التضليل مقصود، لقد اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وأخذت الطبقة الوسطى بالاضمحلال تدريجيًا حتى أصبحت فى وضع خطر، أما روبرت كابلان الكاتب السياسي، فيؤكد أن أمريكا عليها زينة الديمقراطية، ولكنها ليست ديمقراطية أبدًا. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى