عاش المصريون فى عجب من الطبيعة التى تفجرت بالنفط فى دول عربية شرقا، وفى ليبيا غربا، ورغم أن أولى آبار البترول التى عرفتها المنطقة كانت فى رأس غارب على الساحل المصرى فى البحر الأحمر فإن ذلك لم يعن كثيرا من الثروة. وظلت مصر دولة مستوردة للنفط حتى سبعينيات القرن الماضى حينما ظهرت بشائر نمو الإنتاج المصرى حتى بات التصدير ممكنا، فأصبحت العائدات النفطية مع قناة السويس والسياحة وتحويلات العاملين المصريين فى الخارج تشكل غالبية الموارد المصرية من النقد الأجنبي. وفى الحقيقة فإن المصادر الأربعة كانت معظمها نفطا، فأغلب السفن العابرة للقناة كانت تنقل البترول من منطقة الخليج إلى أوروبا وأمريكا، وشكل السائحون العرب فى مصر ما كان متوسطه 40% من الإنفاق السياحي، وجاءت الأغلبية من تحويلات العاملين المصريين فى الخارج من دول عربية منتجة للنفط. ورغم كل ذلك فإن «الثروة» كانت محدودة خاصة إذا ما قورنت بالاحتياجات المصرية المرتبطة بالزيادة السكانية وإعادة بناء البنية الأساسية التى ظلت معطلة حتى توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. وما أن نعمت مصر بالسلام حتى كانت أسعار النفط قد واجهت انخفاضا حادا خلال الثمانينيات من القرن الماضى فأصيبت مصر مرة أخرى بحالة من عسر العملات الصعبة ظلت معها حتى تم الاتفاق مع صندوق النقد الدولى فى عام 1993 فدخلت مصر مرحلة من النمو الاقتصادى واكبه انخفاض فى معدلات الزيادة السكانية والفقر معا. ولكن مصر مع مطلع الألفية الجديدة بدأت مرة أخرى تتحول من دولة مصدرة للنفط والغاز لكى تكون دولة مستوردة، وعادت معدلات النمو السكانى للزيادة مرة أخري، وتمددت معدلات الفقر معها، وكأن ذلك لم يكن كافيا فدخلت مصر عهدا للثورات المصاحبة بارتفاع معدلات الفقر، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادى. الآن تدخل مصر فى دورة اقتصادية جديدة تتواكب فيها مجموعة من العناصر الاقتصادية الواعدة بدأت بنهاية عهد الثورات مع الإطاحة بحكم الإخوان، والبدء النشيط فى إعادة بناء البنية الأساسية المادية والتشريعية للاقتصاد المصري، ومعه بدأت معدلات النمو الاقتصادى فى الارتفاع التدريجى حتى تعدت 5% فى العام المالى الماضي. مثل هذا المعدل لم يكن جديدا على الاقتصاد المصرى فقد سبق تحقيقه بل عبوره فى نهاية السبعينيات ومنتصف التسعينيات من القرن الماضي، وكذلك فى الأعوام الثلاثة السابقة على عهد الثورات. هذا المعدل على أى حال كان ولا يزال منخفضا عند حسابه مع الزيادة السكانية؛ كما أنه ليس مستداما من ناحية أخري. ومع ذلك فإن حدوثه هذه المرة جاء مصاحبا لبشائر طفرة بترولية يمكنها من ناحية أن تقلب مصر مرة أخرى من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة للنفط بحيث تكتفى ذاتيا من الغاز هذا العام ومن النفط مع مطلع العقد المقبل. لقد كان تخطيط الحدود البحرية مع السعودية وقبرص، مع سداد جزء كبير من الديون المصرية للشركات البترولية، والاستقرار السياسى الذى حققته البلاد خلال السنوات الخمس الأخيرة، أسبابا كافية لكى تعود هذه الشركات مرة أخرى لكى تستكشف وتنتج النفط والغاز. وفى الحقيقة أن مصر أصبحت «دولة بترولية» لأكثر من سبب: أولها أن إنتاجها من النفط والغاز يتزايد والمقدر أن يفيض عن حاجتها. وثانيها أنه سواء كانت مصر مستوردة أو مصدرة للنفط والغاز فإنها بحكم عدد السكان والقاعدة الصناعية المتوافرة فيها تشكل أكبر سوق لاستهلاك الطاقة فى منطقة شرق البحر المتوسط وغرب البحر الأحمر. وثالثها أن مصر باتت بالفعل مركزا إقليميا للطاقة ليس فقط كمستهلك وإنما كممر للعبور من خلال قناة السويس وأنابيب شرق المتوسط وكمكان للتصدير إلى أسواق الاستهلاك المختلفة فى العالم. ورابعها أن مصر هى مركز صناعى لتسييل الغاز وتصنيع النفط من خلال مجمعات البتروكيماويات التى تشكل طفرة كبيرة فى الاقتصاد المصرى لم تكن متوافرة من قبل. وخامسها أنه مرة أخرى تعود تحويلات العاملين المصريين فى الخارج، خاصة من دول نفطية، لكى تشكل الحلقة الرئيسية من موارد النقد الأجنبى المصرى خاصة أنه خلال الشهور العشرة الأولى من العام المالى 2017/2018 بلغت تحويلات العاملين المصريين 26 مليار دولار أى أكثر من ضعف ما أقرضه صندوق النقد الدولى لمصر، وما يماثل تقريبا إجمالى حجم المعونات العربية لمصر خلال السنوات الخمس الأخيرة. ولكن السؤال الأهم هو ما الذى تفعله مصر لكى تجعل تحولها إلى دولة بترولية مشجعا على قفزة فى معدلات النمو تصل إلى 8% سنويا، وهى النسبة التى عندها يحدث تحسن ملموس فى مستويات معيشة المصريين يمكن ملاحظته وإدراكه؟ وما لا يقل أهمية عن ذلك ألا تقع مصر فى شراك التطورات التكنولوجية للسيارات الكهربائية والتطورات التكنولوجية التى تجعل أهمية النفط والغاز فى تراجع؟ مصر لديها فرصة كبيرة وربما تكون تاريخية لكى تحقق القفزة الكبرى فى تنميتها الاقتصادية لكى تكون مستدامة من خلال استغلال ظروفها البترولية استخداما صناعيا فى الأساس بمعنى أن التوجه الرئيسى ليس التصدير للمنتج وإنما تصنيعه واستخدامه فى تحفيز شبكة الصناعات المصرية وتعميقها تكنولوجيا. مثل ذلك يحتاج بيئة استثمارية نشيطة توجه أموال العاملين فى الخارج، وإعادة استخدام عائد الصناعة والصادرات، فى الاستثمارات المباشرة. ولعل فتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية فى الصناعات التحويلية بأشكالها المختلفة سوف تشجعه الحالة البترولية المصرية بما توفره من طاقة وصناعات وما تتيحه من استخدام مساحات شاسعة من أرض مصر. كل ذلك ممكن إذا ما أمسكنا بتلابيب الفرصة ووفرنا لها مقوماتها السياسية والثقافية، وحافظنا بقوة على ما حققناه حتى الآن من إنجازات على المستوى الأمني. ويبقى بعد ذلك أن التعاون الإقليمى يعطى بعدا كبيرا للحقيقة البترولية لمصر بحكم موضعها الجيوسياسى وأكثر من ذلك الجيواقتصادى بحيث تلعب دورها المأمول فى تحقيق انطلاقة مصرية عظمى دون قيود تكبلها وتمنعها من تحقيق وعدها الموعود. المعنى هنا أنه ليس كافيا فى الحالة المصرية أن يكون لديك النفط والغاز وإنما الأهم من ذلك هو كيف ستستخدمه ؟!. لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد