فى أثناء توليه منصب عمدة إسطنبول كان رجب طيب أردوغان لا يملك من حطام «الدنيا السياسية» شيئا يذكر سوى محبة الناس، لكنه وبحزبه الوليد آنذاك تمكن من التفوق على من هم أعرق وأقدم منه فى عالم الأحزاب المخضرمة، حتى إنه تخطى الحزب الذى أسسه أستاذه الراحل نجم الدين أربكان، وقد تجسد هذا فى الانتخابات البرلمانية المبكرة التى جرت بمستهل الألفية الثالثة، وفى مجلس الأمة التركى الكبير حيث تربع العدالة والتنمية (وكان حينذاك اسما على مسمى) على أغلبية مقاعده 366 نائبا من إجمالى 550 مقعدا. وحين انقلب الحال إلى النقيض تماما، أى بعد أن صار يستحوذ على الدولة بمفاصلها وأجهزتها السيادية، راح بالكاد ينجح بشق الأنفس فى ماراثوناته بأفرعها الثلاثة (رئاسية وبرلمانية ومحليات). استحقاق ابريل البرلمانى فى عام 2016، كان قاسيا ومرعبا بعث له بإشارة مشئومة مؤداها أنه فى طريقه للزوال إن لم ينتبه ويتدبر أمره، وهكذا تعلم أردوغان الدرس وأخذ عهدا على نفسه بألا يكرر هذا المأزق معلنا انتهاء حقبة النزاهة والشفافية وكان له ما أراد فى نوفمبر من ذات السنة إذ تمكن من استعادة ما فقده من مقاعد. والمفارقة أن ما حققه لم يشف غليله فزاد من إحكام قبضته من خلال ترسانة من القوانين والتشريعات إضافة إلى حالة طوارئ على مشارف أن تدخل عامها الثالث، والهدف سد أى ثغرة يمكن أن يفلت منها الخصوم .ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو 2016 استطاع إحكام سيطرته على الإعلام المقروء والمسموع والمرئى. ورغم كل ذلك حصل على 52.5 % (25 مليون صوت) فى انتخابات الأحد الماضى بينما حصل منافسه محرم إينجة، مرشح حزب الشعب الجمهورى المعارض العلمانى ، على نسبة 30.5 % (15 مليون صوت)، ونسبة التأييد التى حصل عليها إينجة ما هى إلا ثمرة جهد فى أقل من ثلاثة أشهر، مقابل 15 سنة أمضاها السيد الرئيس فى الحكم رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية. فأى نصر هذا الذى تباهى به أردوغان وانبرى إعلامه يهلل له بنفس الإفراط فى الترويج لمؤتمراته الدعائية فى أثناء حملته الانتخابية؟ لدرجة جعلت وزير خارجيته مولود تشاويش أوغلو يذهب للقول إن كل المظلومين فى العالم تضرعوا لله كى يفوز أردوغان، والسؤال هل من بين هؤلاء المظلومون فى بلاده وهم كثروا؟ وزاد من عبثية المشهد تلك الصور التى تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى وتظهر مناصريه يسودون البطاقات ويضعونها فى صناديق الاقتراع التى لم تكن قد امتلأت بعد، ومع هذا فالانتخابات لم تشهد خروقات كبيرة هذا هو قول أردوغان وهو يعلن فوزه قبل انتهاء الفرز، ونقلته وسائل الإعلام التابعة له لمرة واحدة، ولم تعد إليه، إنها زلة لسان أقرت بوجود انتهاكات. أما المنافس محرم ايجنة الذى احتشدت الملايين فى لقاءاته خصوصا فى إزمير (2.5 مليون) وأنقرة (3 ملايين) وأخيرا إسطنبول (مليون ونصف المليون) وبثتها وسائل الإعلام العالمية، فقد تجاهل التليفزيون التركى عرض لقاءاته، وكان دليلا لا يدانيه شك على أن المنافسة بين المرشحين لم تكن عادلة .الطريف أن الفضائيات احتفت فيما بعد بإنيجة لروحه الرياضية العالية وذلك لتقبله فوز أردوغان وهو يدشن ديمقراطيته الفريدة المتمثلة فى حكم الفرد الواحد. وكان طبيعيا أن تثير تلك المشاهد حفيظة الغرب الأوروبى وها هى رئيسة المجموعة البرلمانية الألمانية التركية فى البرلمان الألمانى، سيفيم داج ديلين، تقول « إن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فى تركيا «ليست حرة ولا نزيهة». وأضافت داج ديلين، التى هى أيضا عضو حزب اليسار الألمانى المعارض والمنحدرة من أصول أناضولية، إن «أردوغان وصل إلى هدفه المتمثل فى نظام رئاسى سلطوى من خلال التلاعب الذى بدأ قبل وقت طويل من يوم الانتخابات» وتابعت انّ «هناك ما يدعو للخوف من أن يدفع أردوغان تركيا إلى مستويات جديدة من التطرف» لافتة الأنظار إلى ما سبق وقاله الأخير «إن الديمقراطية هى قطار نستقله حتى نصل إلى هدفنا». كذلك انتقد عضو البرلمان والمسئول السابق فى حزب الخضر الألمانى، جيم اوزديمير، والمنحدر من أصول تركية، أنصار الرئيس التركى الذين يعيشون فى المانيا خلال احتفائهم بالنصر الزائف لصرخاتهم «رجب أردوغان زعيمنا» قائلا إنهم «لا يحتفلون فقط بدكتاتورهم، بل يعبرون عن رفضهم لديمقراطيتنا الليبرالية». فى هذا السياق لم يكن غريبا أن يهرع المتشددون، وفى القلب منهم جماعة الإخوان المسلمين «التى تجد ملاذها الحاضن الوحيد تحت مظلة الجالس فى قصره المنيف بضاحية بيش تبة بالعاصمة، بالتعبير عن فرحتهم الغامرة بالانتصار العظيم الذى حققته وريثة الإمبراطورية العثمانية المجيدة». فما أن ظهرت النتائج الأولية واعدة بولاية جديدة ل «قائدهم المفدى» حتى أطل أقطاب الإسلام السياسى، وقد دبجوا برقيات التهنئة العاجلة منها على سبيل المثال لا الحصر تلك التى نسبت إلى القيادى الإخوانى منير إبراهيم وانطلقت من الفضاء البريطانى «فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان حفظه الله، نهنئكم بفوزكم الكبير فى الانتخابات الرئاسية». ومن الدوحة هنأ رئيس ما يسمى الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين يوسف القرضاوى الشعب التركى بكل أطيافه بنجاح العرس الديمقراطى» وفقا لنعته. لكن يظل إطراء المراقب العام للجماعة بالسودان، جديرا بالتأمل فالرجل لم يكتف بوصف «مخاض الأحد» ب «التجربة الباهرة والدرس العظيم» بل جنح ليقول «إن فوز أردوغان، فيه دروس وعبر، منها» أن الشعوب هى الضامن الأول لاستمرار عهود الحريات والاستقرار» ومكمن الإثارة فى تلك الأقاويل الجانحة إن صاحبها لم تصله بعد أدبيات وتقارير دولية أجمعت على أن تركيا فى ظل أردوغان باتت أشبه ببلد متخلف يرزح تحت نير الاستبداد. كما أنها أصبحت تعانى جملة من «الأزمات المركبة والمعقدة معا ولا يبدو واقعيا أنها سوف تأخذ طريقها إلى الحل بعصا سحرية، فأردوغان وبعد أن يفيق من نشوة الفوز تنتظره استحقاقات خطيرة وجوهرية لا سبيل إلى حلها بالتمنيات والوعود». وسيتكشف لاحقا أن جعل بلاده قوة اقتصادية ولاعبا رئيسيا على الساحة الدولية أمر بعيد المنال تعكسه شواهد عديدة ف «تركيا لم تعد محببة لدى المستثمرين الأجانب، ويسعى أفضل أبنائها حاليا أو ربما سعوا بالفعل إلى أماكن أخرى أفضل».