«الولايات المتحدة والكوريتان تعيدان كتابة التاريخ»، هذا هو العنوان الأبرز للقاء الذى جمع لأول مرة بين رئيس أمريكى ورئيس كورى شمالى، وهو أمر تكاد تجمع عليه كل الأطراف الإقليمية التى طالما استشعرت الخطر والقلق من ممارسات بيونج يانج المهددة لأمن واستقرار ليس فقط شبه الجزيرة الكورية بل المنطقة بأكملها. فاللقاء الذى لم يكن أحد يتوقع حدوثه منذ عدة أشهر فقط انتهى وسط أجواء من التفاؤل والاحتفاء والوعود بطى صفحة من العداء والتوتر استمرت لستة عقود، والاستعداد لبدء مرحلة مختلفة تماما يسودها الكثير من النوايا الطيبة على حد قول ترامب. ومع انشغال الجميع بتحليل نتائج القمة، التى مثلت انعطافا مهما فى سياسة كل من واشنطنوبيونج يانج بعد سلسلة من الإستفزازات المتبادلة التى وصلت الى حد التراشق اللفظى وتبادل السباب، القمة انتهت بالتوصل إلى اتفاق مشترك شامل –على حد وصف ترامب- تضمن تعهدا من الزعيم كيم جونج اون بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، مقابل تقديم الولاياتالمتحدة ضمانات أمنية لكوريا الشمالية، فقد كان التساؤل المطروح وبشدة من جانب المراقبين والمحللين حول الطرف الذى خرج فائزا من هذا اللقاء التاريخى والاستثنائى، وهل يمكن اعتبار هذه القمة مكسب للجميع، أم مكسب للزعيم كيم جونج أون فقط؟ وهل يمكن أن يتحول لقاء القرن إلى مقامرة القرن كما اعتبره البعض؟ والإجابة على هذه التساؤلات ليست قاطعة، وهى بالتأكيد مرهونة بتطورات المرحلة اللاحقة لهذا اللقاء، ولكن ذلك لا ينفى أن هناك من يرى أن كيم هو المستفيد الأول من هذه القمة لأسباب عديدة، فمن الناحية الشكلية، فلأول مرة يظهر الزعيم الكورى الشمالى كرجل دولة بعد أن ظلت بلاده تعامل لعقود طويلة كدولة منبوذة، حتى أنه كان من النادر رؤية علم كوريا الشمالية فى أى محفل دولى. ومن هنا فإن مجرد اللقاء بين ترامب وكيم أضفى صفة الشرعية على نظام طالما اتهمه الغرب بالديكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان، وهو من هذا المنطلق حقق انجازا فعليا ربما كان والده وجده يحلمان به. أما من الناحية العملية فهناك من يرى أن الصيغة التى وافق عليها كيم، وهى نزع الاسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية لا تلبى المطلب الأمريكى الثابت بتخلى كوريا الشمالية عن ترسانتها النووية بشكل قابل للتحقق ولا رجعة عنه. ومن وجهة نظر هؤلاء فقد أخفقت القمة فى الحصول على أى التزامات ملموسة من بيونج يانج بتفكيك ترسانتها النووية، كما أن البيان لم يتطرق لوضع حقوق الإنسان وهو ملف طالما تناوله الغرب بكثير من الانتقادات. وهنا يشير أحد المحللين إلى أن الإعلان المفاجىء لترامب خلال تصريحاته الصحفية بأنه يرغب فى انسحاب القوات الأمريكية من الشطر الكورى الجنوبى، واصفا المناورات المشتركة مع اليابان وكوريا الجنوبية بألعاب الحرب الاستفزازية، يعد مبادلة غير متوازنة للدفاع عن حلفاء للولايات المتحدة مقابل وعد غير مضمون التحقق،فضلا عن كونه أثار قلق اليابان وكوريا الجنوبية اللتين تعتمدان على مظلة الحماية الامريكية، وهو أمر كان يمكن أن يفعله رؤساء أمريكيون سابقون ولكنهم لم يفعلوه، وهو ما يؤكد من وجهة نظرهم أن الإنجاز التاريخى الذى يتحدث عنه ترامب لم يخرج عن كونه استعراضا إعلاميا. بل إن البعض رأى أن حديث ترامب حول سحب القوات الأمريكية من شبه الجزيرة الكورية أمرا يثير الدهشة، وكذلك التساؤلات حول نوع الضمانات الأمنية التى توافق عليها بلاده، وهل سيقوم ترامب فى النهاية بهذه الخطوة مقابل نزع السلاح النووى، كما دفع البعض للتساؤل أيضا عن سبب عدم الإصرار الأمريكى على عدم إثارة قضية حقوق الإنسان كجزء من الصفقة؟ ومع ذلك فهناك من يرى على الجانب الأخر أن الموقف الأمريكى ليس بهذا القدر من السلبية، ومع التسليم بأن كيم امتنع عن الإجابة على أسئلة الصحفيين عن إمكانية نزع السلاح النووى فى كوريا الشمالية، وأن البيان المشترك الذى أصدره الجانبان لم يفصح عن الكثير، فإن الموضوعية تقتضى القول بأن سياسات ترامب نجحت فى اختراق العزلة الكورية الشمالية، بقدر لم ينجح فيه أى رئيس أمريكى سابق، كما أن الولاياتالمتحدة نجحت فى تحديد جدول الاعمال للخطوات المقبلة مع المتابعة التى يقودها وزير الخارجية مايك بومبيو، ومن وجهة نظر هؤلاء فإنه يتعين على المجتمع الدولى رغم اختلافه مع ترامب فى العديد من القضايا أن يدعمه فى جهوده الرامية إلى دفع نظام بيونج يانج للوفاء بالتزاماته. وفى كل الأحوال فقد رحب الجميع بالقمة وفى مقدمتهم الصين الداعم الدبلوماسى والاقتصادى الوحيد لنظام بيونج يانجواليابان التى اعتبرتها خطوة على طريق الحل الشامل لكل القضايا المتعلقة بكوريا الشمالية، وروسيا التى نبهت أن الشيطان يكمن فى التفاصيل، ولم تتحفظ عليها سوى طهران التى حذرت بيونج يانج من الثقة فى الرئيس الأمريكى. بل إن البعض اعتبر أن لحظة المصافحة فى حد ذاتها تعد تاريخية بغض النظر عما سيحققه الطرفان، وبهذا المنطق فإن قمة سنغافورة حتى وإن شهدت عيوبا تمثل بداية لعملية دبلوماسية تأخذ العالم بعيدا عن حافة الحرب، فهى تفتح للمرة الأولى منذ منتصف القرن الماضى بابا للسلام فى تلك المنطقة المتوترة. وفى النهاية فقد حقق كلا الطرفين ما كان يصبو إليه، فزعيم كوريا الشمالية أصبح زعيما عالميا معترفا به، وترامب أيضا حصل على لحظة تاريخية سوف يسجلها التاريخ له.