فى المساءلة التاريخية للإعلاميين العرب، الذين سبقونا وتمتَّعُوا بنجومية حقيقية كانت ذات صلة بالجماهير مباشرة، تظهر أمامنا تجربتان بارزتان أثّرتَا بشكل مباشر على مواقفنا من الانتصارات والهزائم، تجربة أولى يعود عمرها من حيث النتائج إلى 51 عاما خلت، تخصُّ المذيع المصرى القومى أحمد سعيد (صوت العرب)، والثانية تخصًّ وزير الإعلام العراقى الأسبق محمد سعيد الصحاف، وهذه التجربة مقارنة بالأولى معظمنا اليوم شاهد عليها، حيث لم يتجاوز تاريخ حدوثها 15 عاماً، أى إنها لا تزال مشاهدها وعباراتها ونتائجها ماثلة أمامنا، ولا يمكن التّخلص منها، ربما إلى عقود، بل قد لا يتم التخلص منها على الإطلاق، لأنها أبشع من هزيمة يونيو 1967، لأن هذه الأخيرة، أتبعت بحرب الاستنزاف، ثم بحرب أكتوبر المجيدة فى مدة لم تتجاوز ست سنوات على الهزيمة، فى حين هزيمتنا فى العراق فى مارس 2003، لا تزال متواصلة، وكل سنة تقطع منا دولة عربية، أو يحدث فى الأخرى فتن تشى بأننا نتجه نحو مزيد من الانهيار على المستوى القومي، حتى لو كانت هناك محطات وطنية عابرة أوثابتة للنور والأمل والتغيير. ورغم اختلاف التجربتين الإعلاميتين بين «صوت العرب» و«الصحَّاف» على أساس الموقف السياسي، والبيئة، والتجربة الشخصية لكل منهما، ناهيك على الظروف التاريخية، ونوع الأعداء، وحجم الاقبال والإدبار الإقليمى والدولي، وواقع العروبة قبولاً ورفضاً، وموقع مصر والعراق ودورهما فى التاريخ العربي، إلا أنه كان لهما دورهما البارز فى تشكيل وعى قومى على مستوى الخطاب، ليس استجابة للأنظمة أو السلطة فحسب، ولكن تحملاًّ لمسئولية وطنية وقومية، وكانا بحقٍّ متجاوبين مع البلاغات العسكرية التى كانت تأتيهما من الجهات المعنية، خاصة أنها كانت تبشر فى الحالتين: المصرية (بنصر مظفر على العدو الإسرائيلي) والعراقية (بصمود وقدرة خارقة على مواجهة قوى العدوان). وإذا كُنَّا نُسلِّم برد فعل السياسيين على موقف الرجلين، ومن ثم تأثير السياسة على الإعلاميين، فإن المنشغلين أو حتى المنخرطين فى الإعلام العربى فى كل دولنا، هم على خطأ سواء من ناحية التغييب للرجلين اليوم، إلى أن توفى «صوت العرب»، كما هما فى الماضي، ذلك لأن التجربة الراهنة تدينهم، إذ رغم تعدد وسائل التأكد من وسائل صدق الخبر والمعلومات وتنوع المصادر سواء داخليا أو خارجيا، فإنه لا أحد يجرؤ اليوم فى مؤسسات الإعلام الحكومى خاصة أن يرد أو يغير من خبر أومعلومة من جهة رسمية مع إدراكه ومعرفته، وأحيانا تأكده، من عدم صدقيتها، لهذا علينا اليوم أن نعيد النظر فى علاقة الإعلامى بالسياسى استناداً إلى تجربتى صوت العرب والصحاف، فقد كان الأول عبر إذاعة صوت العرب يهز العالم العربى كله من أقصاه إلى أقصاه، من الجزائر إلى عدن، وكان الثاني، وعبر فضائيات العالم كله يربك أجهزة الإعلام الدولية، ويحرك الشارع العربي، ويعيد احياء مصطلحات من صميم المواقف العربية فى صراعها مع قوى الشر المعادية للعرب، التى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. إن حالة النفور التى نعيشها اليوم من تجربة الرجلين، تتجاوز نكران الجميل إلى الإقصاء، وهى فى النهاية جلد للذات الجماعية على المستوى الإعلامي، مع أنهما كانا قوتين ضاربتين وكل منهما اعتمد على الصوت عند توظيفه للمعلومات ولا يجرمننا شنآن البعض لهما كونها تابعين لنظامين أحاديين على قول الحقيقة، المتمثلة فى أن صوت العرب والصحاف، يمثلان مدرستين فى الإعلام الإذاعى والمرئي، نعجز اليوم مع توافر مئات القنوات الحكومية والخاصة أن يكون لنا مُجْتمعِين نفس تأثيرهما، ولا شك أن ذلك نابع من نبل القضايا التى دافعا عنها، وعوقبا تاريخيا من أجلها، وهما ليسا بمنأى عن الأخطاء أولا لأنهما من البشر، وثانيا: لأنهما نقلا الأخبار كما جاءت من مصادرها دون تغييير، وقدّماها بناء على خلفيتها ومرجعيتها كنصر إعلامي. من الإنصاف والعدل اليوم إذن، أن نعيد للرجلين قيمتهما الإعلامية بالمعنى الوجودي، باعتبارهما شكّلا معاً إعلاما حكوميا ووطنيا ناجحاً ومسئولا، وهما من أهم رجال الدولة فى عصرنا فى مجالهما، وتجربتهما ثرية علينا الاستفادة منها فى تحديد ضوابط علاقة الإعلام بالسياسة، وبكل مؤسسات الدولة، بحيث يتم خدمة الصالح العام دون أن يصحب ذلك تبادل الأدوار، وإذا كانت الغالبية من الإعلاميين العرب هى ذات أحكام قيمية مسبقة وتابعة فهناك قلة منا لا تزال متاثرة بما قاما به. لقد رحل أحمد سعيد تاركا لنا تجربة غنية، صوتا وكتابة، فلنترحّم عليه، ولا يزال محمد سعيد الصحاف بيننا، فلنكرم الرجل الذى نشط ذاكرتنا ونبهنا فى وقت مبكر إلى عودة العلوج والمرتزقة، والأوغاد، وقد عادوا وتمكنوا.. فمن ينقذنا منهم؟. لمزيد من مقالات ◀ خالد عمر بن ققه