كما واجهت الانتخابات العربية صعوبات جمّة فى إجرائها، ها هى تواجه صعوبات أشد فى ترجمة نتائجها إلى مؤسسات. ومن المعلوم أن الانتخابات البرلمانية اللبنانية جرت متأخرة عن موعدها بخمس سنوات كما تأجل تنظيم الانتخابات البلدية التونسية لنحو أربع سنوات، وأفلتت الانتخابات البرلمانية العراقية بأعجوبة من مصير التأجيل بقرار من المحكمة الاتحادية لكن من المفارقة أنها الانتخابات الوحيدة التى تثور لظنون - ندعو الله أن تخيب - حول إمكانية إلغائها وتنظيم انتخابات جديدة . فى هذه الحالات الثلاث تبرز إلى الواجهة معضلة تشكيل حكومات تقبل بها القوى السياسية الفاعلة. ومع أن الانتخابات البلدية التونسية لا شأن لها بتشكيل حكومة جديدة بعكس الحال فى كل من الانتخابات اللبنانيةوالعراقية، فإن الجدل حول مستقبل الحكومة التونسية الحالية ليوسف الشاهد والذى بدأ قبل شهور طويلة قد تعمق بفعل الأزمة التى تضرب حزب نداء تونس والتى كانت نتائج مجلس نواب الشعب أحد مؤشراتها. أحد الأسباب الرئيسة لتعثر تشكيل الحكومات العربية يرتبط بالقانون المنظم للعملية الانتخابية، ففى الحالات الثلاث لبنانوتونسوالعراق جرى اعتماد قانون القائمة النسبية، وهذا القانون يكون جيدا لو كانت هناك حياة حزبية سليمة ومؤسسات حزبية قوية لأنه يجعل التصويت فى هذه الحالة لصالح البرامج الحزبية وليس لصالح العلاقات الشخصية. لكن ما نراه اليوم هو أن هناك أزمة عميقة تعانى منها الأحزاب العربية بشكل عام، وهى أزمة يعود جزء منها للنظم الحاكمة التى لا تهييء المناخ المناسب لتفعيل دور الأحزاب، لكن فى الوقت نفسه فإن هذه الأحزاب والتحالفات الحزبية تعانى صراعات داخلية تؤدى لانشقاقها وتشرذمها. ومثل هذا الوضع لا يفيد معه الانتخاب بالقائمة لأنه يضع المصالح الانتخابية فوق الالتزامات الحزبية، وبالتالى فلقد وجدنا العجب فى الانتخابات الثلاثة المشار إليها، فهناك الحزب الواحد الذى لا يخوض الانتخابات بنفسه لكن يسمح لاثنين من تياراته بأن يتنافسا فى الانتخابات ويخوضا معا معركة تكسير عظام (حزب الدعوة)، وهناك التحالف الحزبى والسياسى الذى يخوض أطرافه الانتخابات معا فى دوائر معينة ويتواجهون ضد بعضهم البعض فى دوائر أخرى (حزب الله والتيار الوطنى الحر)، وهناك الحزب ذو التوجه الأيديولوچى المعلن الذى يفتح قوائمه للمختلفين معه بالكلية ليسحب البساط من تحت أقدام الحزب المنافس (حركة النهضة). وهكذا نجد أنفسنا إزاء انتخابات تخلط الأوراق وتضعف المصداقية وتؤثر على نسبة المشاركة السياسية . وفى ظل هذا الواقع الحزبى المشوّه فى وطننا العربى يأتى القانون الانتخابى بتفصيلة مهمة تعمق الشرخ داخل القوائم الحزبية وفى داخل كل حزب، وأعنى بذلك التفصيلة الخاصة بالصوت التفضيلى فى القانونين اللبنانىوالعراقي، أى أنه بعد أن يصّوت الناخب لقائمة معينة فإنه ملزم بموجب القانون اللبنانى ومُخَيّر بموجب القانون العراقى فى التصويت لمرشح بالذات فى داخل القائمة، وهذا بالطبع يخلق تنافسا محموما بين المرشحين المنتمين للقائمة الواحدة، كما أنه فى الحالة العراقية يؤدى لاختلاف المراكز القانونية للمرشحين مادام أن الصوت التفضيلى ليس ملزما للناخبين . نعرف جميعا أن المقدمات تقود إلى النتائج، وبالتالى ينبغى ألا نندهش من المصاعب التى تواجهها عملية التشكيل الحكومى فى مرحلة ما بعد الانتخابات. نبدأ بالحالة العراقية ونلحظ وجود صيغ مختلفة لتشكيل الحكومة، فهناك صيغة الحكومة التوافقية التى يطرحها تحالف النصر، وصيغة حكومة الأغلبية السياسية التى تطرحها قائمة دولة القانون، وصيغة حكومة التكنوقراط المنتمين سياسيا التى يطرحها تيار الحكمة، وصيغة الحكومة التكنوقراطية غير الحزبية التى يطرحها تحالف (سائرون). كل صيغة من هذه الصيغ (محمول) على نسبة من التصويت تكفل له شرعية تمثيلية ما، وكل منها له مسار مختلف ونتائج مختلفة. ووسط هذا كله يأتى من يطالب بإبطال الانتخابات والبدء من نقطة الصفر، وهذا مسار شديد الخطورة ينذر بإدخال العراق فى نفق مظلم لا يعلم نهايته إلا الله، ليس فقط بسبب تعقيدات الوضع العراقى الداخلى، لكن أيضا لأن هذا يفسح المجال لتدخلات قوى إقليمية ودولية لحسابها الخاص. وفى لبنان هناك اختلاف حول تحديد حصة رئيس الجمهورية من الوزراء وهل تتحدد هذه الحصة بموجب وضعه كرئيس للدولة فقط أم يضاف إليها ما حققته كتلته السياسية من نتائج فى الانتخابات واختلاف حول قضية الجمع أو الفصل بين عضويتى البرلمان والحكومة، واختلاف حول تمثيل الأقليات الصغيرة وعلاقته بحجم الحكومة، وطبعا هناك اختلاف على الوزارات السيادية. أما فى تونس فإن الموقف من حكومة الشاهد ليس إلا مجرد واجهة للخلاف بين طرفى الحكم وللأزمة داخل حزب النداء كما سلف القول، وهو موقف يذكرنا كثيرا بما حدث مع حكومة حبيب الصيد السابقة على الحكومة الحالية حيث أيدت النهضة استمرارها وطالب النداء بتغييرها ثم جرت توافقات غير معلنة وأطيح بالصيد . الفارق اليوم أن الوضع التونسى أكثر تعقيدا سواء اقتصاديا أو سياسيا، كما أن التجمع النقابى الأبرز لا يبدو مبادرا بدور نشط لحلحلة الأزمة كما فعل فى مرات سابقة . إن الفارق بين إجراء الانتخابات مهما كانت صعوبته وبين تشكيل مؤسسات قوية وعلى أسس راسخة هو الفارق نفسه بين شكل العملية الانتخابية وبين جوهرها، وتلك هى معضلة الديمقراطية فى وطننا العربى. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد