رغم أن الزهد من سمات الإسلام فإنه قد وجد من يثير التساؤلات حول أصالته مستندًا إلى رأيه، أو انطباعه الشخصي، أو إلى لفظة هنا، أو إشارة عابرة هناك، يقف أمامها مفسرًا إياها حسب منطلقاته الذاتية أو دوافعه الفكرية. فهناك مثلا مَنْ يستبعد أصالة الزهد فى الإسلام، لأن كلمة الزهد لم ترد إلا مرة واحدة فى القرآن الكريم فى سورة يوسف (وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) يوسف/20، وهناك من يرى أن الزهد طارئ جديد على الإسلام جاء كرد فعل للإسراف الذى عرفه المسلمون بعد الفتوحات واتساع رقعة الدولة الوليدة. ولكن المتأمل والمدقق يتبين بوضوح شديد وبساطة أشد أن الزهد فى الإسلام قد نشأ نتيجة عوامل ذاتية خالصة بفعل التوجيهات والإشارات القرآنية والنبوية التى تعددت فى بيانها فضل الزهد فى الدنيا والعزوف عن الاستغراق فى متعها وشهواتها نظرًا لكونها زائلة، ولأن ذلك يصرف الإنسان عن كثرة الخير والعمل لصالح الآخرين وإيثارهم، وكذلك الوفاء بحقوق وحظوظ النفس فى العمل لليوم الآخر طلبًا لمكانة ودرجة عالية فى جنات الخلد.فيقول تعالى: “وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون” الأنعام/ 32، ويقول تعالى: «بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى» الأعلى/ 16- 17. ويقول النبى صلى الله عليه وسلم: “كن فى الدنيا كأنك غريب”. ولم تكن تلك التوجيهات القرآنية والنبوية مجرد تنظير فلسفى تعليمى فحسب، بل كانت واقعًا حياتيًا بواسطة المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم الذى كان كما وصفته أم المؤمنين عائشة (خلقه القرآن) أى أنه كان قرآنًا يمشى على الأرض. وبالتالى حوّل النبى تلك التوجيهات إلى واقع عملى، فكان زاهدًا فى المسكن فمسكنه عبارة عن غرفة أساسية كان إذا نام فيها شخص لا يستطيع أن يمر جانبه شخص آخر، وكان طعامه الأساسى هو التمر والماء، بل كان يمر الشهران والثلاثة دون أن توقد نار للطهى فى منزله صلى الله عليه وسلم. ولما كان الصحابة كما يقول - ابن عمر- لا يجاوزون الآيات العشر حفظًا حتى يطبقوها ويعملوا بها، فإنهم قد استحضروا التوجيهات القرآنية والتطبيقات النبوية وتمثلوها واقعًا حيا، فكانوا مجتمع الزاهدين الذين يملكون الدنيا فى أيديهم ولا تملكهم هى فى قلوبهم، حتى الأثرياء منهم مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأبو بكر الصديق كان الواحد منهم يجهز جيشًا بأكمله، أو يشترى بئرًا ليشرب منها أهل المدينة، أو يتنازل عن قافلة تجارية كاملة لصالح المحتاجين فى وقت الشدة وغلاء الأسعار، أو يتبرع بماله كله كما فعل أبو بكر الصديق. بل إن جماعة من الصحابة عاشت حياة الزهد الخالصة منقطعة للعبادة وهم أهل الصفة الذين لم تكن لهم عائلات أو أية موارد مالية للإنفاق. وهذا الزهد الأصيل فى الإسلام زهد متوازن يراعى الحاجات الأساسية الفطرية للإنسان كما قال تعالى: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا»القصص/ 77، فإن لربك عليك حقًا ولبدنك عليك حقًا ولأهلك عليك حقًا.