عندما حذر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل أيام من أن الانسحاب الامريكي من الاتفاق النووي مع إيران يعني «أننا نفتح صندوق باندورا وقد تندلع حرب» لم يكن في الأمر مبالغة. فبعد ساعات من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فرض عقوبات مشددة على طهران، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أن العقوبات ستشمل حتى الشركات الاوروبية الناشطة في إيران. وهذا يعني عملياً صعوبة صمود الاتفاق النووي برغم اعلان الدول الأوروبية الثلاث، بريطانيا والمانيا وفرنسا، تمسكها به، وتأكيد طهران أنها لن تنسحب فوراً منه وسترى أولاً هل عوائد التزامها بالاتفاق تساوي تكلفته. هناك مخاوف أوروبية جسيمة، أمنية وسياسية وأقتصادية، من مقاربة ترامب للملف الإيراني. وهي مقاربة لخصها دبلوماسي أوروبي ل«الأهرام» ب«كل شىء أو لا شىء». ويقول الدبلوماسي الأوروبي الذي كان أحد المشاركين في المفاوضات الماراثونية مع إيران والتي استمرت أكثر من عامين: «التخلي عن الخطة (أ) بدون أن يكون لديك خطة (ب) ليس استراتيجية. الاتفاق النووي مع إيران لم يكن سهل المنال. تفاوضنا لأشهر. في أحيان كثيرة لم نكن ننام. لكننا حققنا هدفنا في النهاية. اتفقنا مع الإيرانيين على بناء أقوى نظام مراقبة لأنشطتهم النووية. طهران تمتثل للاتفاق. وكالة الطاقة الذرية راضية عن التنفيد. وبالتالي التخلي عن الصفقة خطأ فادح. إذا كانت إدارة ترامب لديها مشاكل مع أنشطة إيران الأخرى في الشرق الأوسط ، فيجب التعامل معها بشكل منفصل عن الصفقة النووية». وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن قتل الصفقة بدون بديل هو «كارثة سياسية» على أكثر من صعيد، إبرزها صعيد التفاهمات مع إيران، ومستقبل الاستقرار في الشرق الأوسط، والعلاقات الأوروبية مع إدارة ترامب. ويوضح الدبلوماسي الأوروبي ل«الأهرام»: «كيف يمكننا أن نقنع إيران في المستقبل أن تأتي إلى طاولة المفاوضات للتفاوض على برنامجها للصواريخ البالستية؟ كيف يمكننا دعوة إيران لتغيير سلوكها في الشرق الأوسط؟. بدون حافر الاتفاق النووي لا يمكننا إقناع إيران بالتعاون. الانسحاب من الاتفاق النووي في الواقع يجعل من الصعب للغاية التأثير على سلوك إيران في باقي الملفات». أوقات عصيبة وحسابات متضاربة قرار ترامب بالتالي عقد خيارات حلفائه الأوروبيين. ويقول الدبلوماسي الاوروبي إن قادة الأتحاد الاوروبي «حانقون» على الخطوة الامريكية. فكل مساعيهم باءت بالفشل. ففي محاولات اللحظة الأخيرة لإقناع ترامب بعدم الانسحاب من الصفقة، قام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بزيارتين متتاليتين في أبريل الماضي للضغط على ترامب للنظر في خياراته. أما وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون فزار واشنطن يوم الاثنين الماضي والتقى مع كل مسؤول يستطيع مقابلته في الادارة. وجادل جونسون خلال محادثاته أن أي عيوب في الاتفاق «يمكن اصلاحها». وشدد على أنه بدون الاتفاق «لا يبدو لي أن هناك خطة (ب) في هذه المرحلة. إذا انسحبت من الاتفاقعليك الإجابة على سؤال: وماذا بعد؟ ماذا لو سارع الإيرانيون إلى امتلاك سلاح نووي؟ هل سنقوم بقصف تلك المنشآت النووية في فوردو وناتانز؟ هل هذه حقا امكانية واقعية؟ أم أن نعمل بما لدينا الأن وهو الاتفاق النووي الحالي ونضغط على إيران معا(من أجل تحسين الاتفاق)؟ لا يبدو لي في الوقت الحالي أن هناك حلاً عسكرياً قابلاً للتطبيق». وفي نظر جونسون «إيران فقط ستكسب» من التخلي عن القيود النووية التي تقيد انشطتها بموجب الاتفاق. لقد عملت بريطانيا وفرنسا وألمانيا ب»إستماتة» من وراء الكواليس لعدة أسابيع للحفاظ على الاتفاق النووي وليس من الصعب معرفة الأسبابفبموجب الاتفاق، جمدت إيران العمل بثلثي أجهزة الطرد المركزي لديها وتخلت عن 95 % من مخزونها من اليورانيوم. علاوة على ذلك، مُنِح المفتشون من الوكالة الدولية للطاقة الذرية سلطات غير مسبوقة لمراقبة المنشآت النووية الإيرانية. وفي نظر الدول الأوروبية الاتفاق مع إيران «نموذجي» فيما يتعلق بمنع الانتشار النووي في العالم. ولا يزال يتعين علي الاوروبيين فهم تفاصيل تداعيات القرار الامريكي، وإعادة فرض عقوبات فورية على طهران، وفرص الحفاظ على نافذة مفتوحة لمواصلة محاولة التوصل إلى صفقة أوسع مع إيران مستقبلاً تنخرط فيها امريكا. أيضاً أمام طهران قرارات صعبة من بينها هل ستواصل تنفيذ التزاماتها بوجب الاتفاق؟ هل سترد على واشنطن في جبهات آخرى؟ هل ستقبل إعادة التفاوض على الاتفاق الحالي؟ أو التفاوض على اتفاق جديد تماماً كما يريد ترامب؟. لا يبدو هذا الاحتمال واردا حالياً ويوضح دبلوماسي إيراني في لندن ل»الأهرام»:»هذا غير وارد. لا أحد في إيران سيقبل، سواء الاصلاحيون أو المحافظون. الصفقة النووية كانت صفقة جيدة لكل الأطراف المعنية. نحن سعداء بالحفاظ عليها طالما أنها تخدمنا بشكل جيد وتحمي مصالحنا وكرامتنا. لكننا مستعدون لجميع الخيارات. ولكي أكون صادقاً، فإن مشكلة واشنطن وحلفائها كما نراها ليست في الاتفاق النووي وإنما في النفوذ الإيراني. نحن قوة أقليمية كبيرة ولدينا نفوذ ولا يوجد شيء يمكن لأمريكا وحلفائها فعله حيال ذلك». ومع أن الرئيس الإيراني حسن روحاني قال إن إيران يمكن أن تواصل الالتزام بالاتفاق حتى مع انسحاب امريكا منه، إلا أنه ألمح إلى أن طهران يمكن أن تنسحب منه أيضاً إذا لم تحصد منه العوائد الأقتصادية التي تتوقعها. من المبكر جداً معرفة آثار انسحاب امريكا من الاتفاق. لكن من النتائج التي لا يمكن تفاديها للخطوة: أولاً، أن الانسحاب يرسل رسائل سلبية إلى دول أخرى - خاصة كوريا الشمالية - حول مصداقية الولاياتالمتحدة كشريك في أي اتفاقيات مستقبلية. ثانياً، من المحتمل أن تؤدي هذه الخطوة إلى سباق تسلح في الشرق الأوسط إذا ما قررت إيران التخلي عن الصفقة وإعادة تشغيل برنامجها النووي. ثالثاً، مع زيادة المشاعر داخل إيران بالحصار، قد تكون طهران وحلفاؤها أكثر خشونة على جبهات المواجهات بالوكالة في سوريا ولبنان والعراق واليمن. فبدون صفقة نووية أو حافز، سيكون من الصعب على الغرب مواجهة النشاط الإقليمي الإيراني، وهي نقطة حذر منها بوريس جونسون خلال زيارته لواشنطن عندما قال إن «إبقاء الاتفاق النووي سيساعد أيضاً في التصدي لسلوك إيران العدواني الإقليمي. أنا متأكد من شيء واحد: كل بديل متاح هو أسوأ من الوضع الراهن. أكثر الطرق حكمة لمعالجة الأزمة هو تحسين القيود على إيران، بدلاً من كسرها». أنه أوباما يا غبي وبنفس النهج كان ماكرون يأمل في بقاء أمريكا في الاتفاق النووي وبدء محادثات حول صفقة جديدة مع إيران للتعامل مع برنامج الصواريخ الباليستية والنشاط الإقليمي لطهران. وهو سيناريو يدعمه غالبية الديمقراطيين في الكونجرس الامريكي والكثير من الجمهوريين أيضا. ويقول آرون ديفيد ميلر، المفاوض السابق لسلام الشرق الأوسط ومستشار عدة رؤساء امريكيين لشؤون المنطقة إن الانسحاب من الاتفاق النووي دون خطة بديلة «قد يكون في المصلحة السياسية للرئيس، لكنه ليس في المصلحة القومية الامريكية». وبالنسبة للكثيرين من المحليين في واشنطن، فإن تفكيك ترامب للاتفاق النووي ليس بالضرورة لان الاتفاق تشوبه عيوب، بل لأنه «ارث أوباما السياسي» الجوهري فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. بعبارة أخرى «أنه ليس الاتفاق يا غبي...بل أوباما». فمنذ وصوله إلى البيت الأبيض منذ أكثر من عام، جعل ترامب من أولوياته القضاء على إرث أوباما. وبدأ هذا بمحاولة قتل «اوباما كير» برنامج الرعاية الصحية الذي هو ذروة انجازات اداراته داخلياً. لكن ترامب فشل فشلاً ذريعاً في قتل الاتفاق عندما صوت الكونجرس ضده، بما في ذلك الأعضاء الجمهوريون. ولاحقاً انسحب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، ثم من اتفاقية التجارة الحرة عبر الباسفيك، وهي كلها سياسات للادارة السابقة. لكن تداعيات الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ أواتفاقية الشراكة عبر الباسفيك لا تقارن بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. فالشرق الأوسط في حالة غير مسبوقة من الاضطراب. والمنطقة تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى حسابات معقدة للتداعيات الجيوسياسية لأي قرار، ناهيك عن قرار متعلق ببرنامج نووي. المعضلة أن القرار الأمريكي وضع واشنطن على مسافة من شركائها الأوروبيين الذين استثمروا الكثير من رأس مالهم السياسي والأقتصادي في إيران منذ الصفقة النووية. فالعقوبات التي أعلن ترامب فرضها على طهران والتي أوضحت وزارة الخزانة الامريكية انها ستبدأ فوراً وستستهدف الشركات الناشطة في إيران، هذه العقوبات ستؤدي عملياً إلى سحب المليارات من الاستثمارات في إيران. كما أن شركات أوروبية استثمرت في إيران منذ 2015 قد تجد نفسها معرضة للعقوبات الامريكية . سيناريو فرض عقوبات على الشركات الاوروبية الناشطة في إيران يهدد بالمزيد من الفجوة بين ضفتي الأطلنطي أو بين امريكا وشركائها الاوروبيين. وسيكون على ترامب السير على خط رفيع حساس من أجل عدم اغضاب حلفاء امريكا الاوروبيين الذين يحتاجهم بشدة من أجل التفاوض مع إيران مستقبلاً حول اتفاقية أوسع وأشمل. فمع أن امريكا خرجت «منفردة» من الاتفاق النووي، إلا أن أي تفاوض مستقبلي من اجل تعديل الاتفاقية وتحسينها أو التفاوض على اتفاقية جديدة تماماً يحتاج إلى»تكتل دولي» . ففلسفة ترامب الجديدة وهى «استخدام العصا بدون جزرة» قد تؤدي إلى تنازلات محتملة على غرار الحالة الكورية الشمالية، برغم ان صفحة المفاوضات مع كوريا لم تُفتح بعد ومن المبكر جداً معرفة ما إذا كان ترامب سيفشل أو سينجح في اقناع كوريا الشمالية بالتنازل عن برنامجها النووي. أيضا إيران غير كوريا الشمالية. وشبه القارة الكورية غير الشرق الأوسط. والضغط الأمريكي الجديد قد لا يولد غير الأنفجار.