الشعب اليوناني صغير العدد فهو يتجاوز بالكاد عشرة ملايين نسمة ولكنه يتمتع بحيوية فكرية وحراك ثقافي ملحوظ. وقد أقيم في الاسبوع الماضي معرض للكتاب في مدينة سالونيك، بلد الاسكندر ومعلمه أرسطو، شارك فيه عدد هائل من الناشرين من أوروبا وأمريكا بل وكذلك السعودية وتركيا ومصر تقديرا منها للدور البارز الذي ما زالت تلعبه ثقافته القديمة حتى يومنا هذا. وكان هذا هو موضوع الحديث الذي طرحته بالفرنسية على جمهور المعرض. فقد استقر في ذهن عدد من رواد النهضة عندنا أن الثقافة اليونانية القديمة هي مدخل مصر إلى النهضة أو إلى الحداثة. والواقع أننا أمام مفارقة مزدوجة: فإذا كانت يونانية، ما علاقتها بمصر، وإذا كانت قديمة فكيف تكون مدخلا إلى الحداثة؟ لن نستطيع أن نفك شفرة هذه المفارقة إلا إذا رجعنا إلى إسهام اثنين من كبار مفكرى النهضة وهما أحمد لطفي السيد وطه حسين. كان أحمد لطفي السيد يرى أن الفلسفة ضرورية كي تمد أبناء الأمة بمنظور عن العالم يستطيعون من خلاله الحكم على الأشياء انطلاقا من معايير علمانية متفق عليها فيما بينهم مثل العقل والملاحظة والتجربة والإحصاء. وما العمل إذا كانت الفلسفة قد اختفت من ثقافة الأمة بعد إدانة الفقهاء لها منذ ثمانية قرون. لا يجوز أن نهبط فجأة على ديكارت وكانط وهيجل، وانما يلزم أولا إحياء الفلسفة العربية القديمة والتي كان أرسطو وجها مركزيا فيها. فقد كان للثقافة العربية الريادة بين الأمم في شرحه والتعليق عليه وتفسير العالم من خلاله. ولهذا عكف لطفي السيد رغم مشاغله السياسية الكبرى على ترجمة أعمال أرسطو الكبرى: الاخلاق، الكون والفساد، الطبيعة، السياسة على مدى ربع قرن. وكان أثناء ترجمته لكتاب السياسة يعمل وزيرا للداخلية فكان يقول كنت أذهب إلى مكتبي في الصباح لأنشغل بالمجرمين من كل لون، وأعود في المساء إلى بيتي لأنعم بصحبة أرسطو. أرسطو مدخل ضروري لإعادة الفلسفة إلى ثقافتنا العربية لأننا اعتدنا عليه فيما سبق ولأنه لا يصطدم بما استقر لدى الأمة من عقائد. ولا يعني هذا أننا يمكننا أن نستغني بفلسفة أرسطو عن الفلسفة الحديثة. لقد كان لطفي السيد نفسه يعلن انتسابه إلى مذهب الليبرلية والفلسفة النفعية عند جيرمي بنتام. ولكن دور أرسطو الضروري في نظره هو وصل ما انقطع. أما طه حسين فقد ترجم في وقت مبكر نسبيا عام 1920 كتاب نظام الاثينيين عن اللغة اليونانية القديمة مباشرة. وقد أهدى طه حسين هذا الكتاب إلى روح قاسم أمين وفاء بما له على شباب مصر الناهض من حق. ثم نشر طه حسين بعد ذلك كتاب قادة الفكر عام 1925. وهؤلاء القادة هم هوميروس والاسكندر الاكبر وسقراط وأفلاطون وأرسطو. لم يكونوا قادة لليونان وحدها بل لمجمل الفكر الانساني ليس في مجال الرياضيات والفلسفة فحسب ولكن في مجال الأدب أيضا. ولا يعني ذلك أنهم قالوا الكلمة الأخيرة ولكنهم فقط رسموا للعقل الانساني المسار الذي سيسير فيه. أما عن الدلالة الرمزية لهذه الثقافة اليونانية القديمة فنجدها مبلورة بوضوح في كتابه مستقبل الثقافة في مصر. في هذا الكتاب يدافع طه حسين عن تدريس اليونانية واللاتينية ليس فقط في الجامعة ولكن كمواد اختيارية في الثانوية العامة. وليس في ذلك حنين إلى الماضي بل نظر إلى المستقبل. أما الدلالة الكبرى للثقافة اليونانية القديمة فهي علامة على انتماء مصر إلى حضارة البحر المتوسط. ولقد أثار هذا الطرح على طه حسين عاصفة من النقد تعتبر الأمر تقليلاً من شأن الاسلام. ولكن طه حسين يقول في كتابه أن التاريخ يعلمنا أن البشرية تنتقل من عصر إلى عصر ولكل عصر سماته. وتتميز الأديان الكبرى مثل المسيحية والاسلام بأنها تترافق مع هذه التطورات وتتعايش مع كل العصور. أما تهمة التخلي عن الثقافة العربية فهي غريبة لأن طه حسين كان من أكبر المدافعين عن اللغة العربية الفصحي وكان من كبار الداعمين لتحقيق المخطوطات التي تعبر عن تراثنا الفكري. إن الانتماء لحضارة البحر المتوسط ليس قومية بديلة بل هو كما يطلق عليه طه حسين أسرة ثقافية. كان النقاد في الحقيقة خصوما لتحرر المرأة وحقوق المواطنة المتساوية للجميع وديمقراطية الحكم. لقد عاشت شعوب البحر المتوسط شمالا وجنوبا قرونا طويلة في ظل الاستبداد. وأراد طه حسين أن يقول لنا إننا حين نتأهب مثلهم للانتقال من عصر الاستبداد إلى عصر الديمقراطية فلن يقف الاسلام ولا اللغة العربية مانعا دون ذلك. وهكذا كانت الثقافة اليونانية القديمة تعني لدى لطفي السيد الفلسفة ولدى طه حسين الديمقراطية.. وكلتاهما من مستلزمات الحداثة.