حفلت الصحف البريطانية على مدار أيام بصور وكاريكاتير وأخبار وتحليلات حول زيارة الدولة التى قام بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى امريكا. فزيارة ماكرون،و هو أول زعيم دولى يدعوه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى «زيارة دولة»، لواشنطن تمت فى توقيت مهم وبالغ الدلالة، والحفاوة التى استقبل بها ماكرون فى البيت الأبيض والكونجرس قلما استقبل بها زعيم دولى فى واشنطن. لكن ومع أن التقارب بين ترامب وماكرون يجب أن يطمئن أوروبا إلى أن الرئيس الأمريكى لن ينتهج سياسات أحادية الجانب خاصة فيما يتعلق بالحرب التجارية مع أوروبا، أو تدمير الاتفاق النووى مع إيران، أو إضعاف الناتو، أو التصعيد فى سوريا. إلا أن الحقيقة أن دولا أوروبية عديدة لم تجد فى قمة ماكرون - ترامب ما يطمئنها وعلى رأس تلك الدول بريطانيا.
فالعلاقة الخاصة بين واشنطن ولندن فى تراجع. وبرغم التنسيق الوثيق بين البلدين فى الملفين الروسى والسوري، إلا أن بريطانيا تشعر بشكل تدريجى أنها باتت فى آخر صف الحلفاء المؤثرين. ولا يلعب البريكست فقط دوراً فى تراجع أهمية بريطانيا نسبياً فى الآونة الأخيرة. فالرئيس الأمريكى له دور أيضاً فى هذا ترامب ليست لديه سياسة خارجية، بل علاقات شخصية، سيئة أو طيبة، وبحسبها تتحدد بوصلته. وقادة العالم يدركون هذا وعلى رأسهم الرئيس الفرنسى ماكرون. وبالتالى يستفيد الرئيس الفرنسى من «كيمياء التقارب» بينه وبين ترامب لتحقيق هدفين. أولا: تنصيب نفسه زعيم أوروبا الأول. وثانياً: الشخص القادر على التأثير على ترامب من أجل تغيير مواقفه فى عدد من القضايا التى تعتبر أساسية بالنسبة لاوروبا ومن بينها اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووى مع إيران والأزمة السورية. وقد أثبت ماكرون انه يمكن أن يؤثر على ترامب. فهو نفسه أعلن أنه أقنع الرئيس الأمريكى بعدم سحب القوات الأمريكية من سوريا خلال الفترة المقبلة، مقنعاً إياه أنه من أجل أى حل يرضى الغرب لابد أن تكون القوات الأمريكية موجودة فى سوريا حتى يمكن استخدامها كورقة للضغط على روسيا وحلفائها فى سوريا. أما الاتفاق النووى الذى حاول ماكرون أن ينقذه خلال الزيارة (من المقرر أن يقدم الاتفاق لترامب للتصديق الدورى عليه فى 12 مايو المقبل، لكن هناك مخاوف من أن ترامب لن يصدق عليه هذه المرة)، فسعى ماكرون لإقناع ترامب بإعطاء الاتفاق فرصة. وستحاول المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل إنقاذ الاتفاق أيضا خلال زيارتها لواشنطن هذا الأسبوع. وعلى الصعيد الشخصي، هناك نقاط مشتركة بين ماكرون وترامب. فكلاهما تسيطر عليه فكرة «الإرث السياسي» وكلاهما يرى «الخصوصية» التى تميز دور بلده فى ذلك التوقيت. كما أنهما أيديولوجياً ليسا مختلفين على نحو حاد. فكلاهما يمينى التوجه. وإن كان ماكرون يمينيا فيما يتعلق بزيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق الحكومى على برامج الرعاية الاجتماعية وتغيير قوانين العمل كى تتلاءم أكثر مع مطالب رأس المال، فإن ترامب يمينى بكل هذه المعاني، وأضف اليها النزعة القومية الحمائية الانعزالية التى تقف وراء حروب ترامب التجارية مع الصين وإغلاقه الحدود الأمريكية أمام المهاجرين وهى سياسات ينتقدها ماكرون علانية وبلا تحفظ بدون أن تفسد علاقته مع الرئيس الأمريكي. كما أن كليهما يعانى داخلياً إلى حد ما. فاستطلاعات الرأى العام فى فرنساوأمريكا تظهر أن نسب التأييد الشعبى لكل منهما فى بلده تتراوح بين 35% و40% فقط. وبالتالى عندما يلتقيان، فإن كليهما يرى جانبا من شخصيته فى الآخر. لكن بريطانيا، التى تعتمد على علاقاتها الخاصة مع أمريكا من أجل تجاوز مرحلة الغموض الاولى بعد البريكست، يقلقها أن تحتل فرنسا مكانتها. ولا عجب أنه بعد مظاهر الحفاوة البالغة بالرئيس الفرنسى فى واشنطن والتى تخللها إلقاء ماكرون كلمة أمام الكونجرس الأمريكى بمجلسيه الشيوخ والنواب، أعلن البيت الأبيض و»10 دواننج ستريت» أن ترامب سيزور بريطانيا يوم 13 يوليو المقبل. وبدورها تشعر المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل بالقلق من تنامى العلاقات الثنائية بين الرئيسين الأمريكى والفرنسي. فهى لا تثق فى ماكرون ثقة كاملة. ولا تثق فى ترامب إطلاقاً. لكن ألمانيا لن تغادر أوروبا وهى ما زالت قوتها الضاربة. أما بريطانيا تغادر وكل تطور مهما كان محدودا يمكن أن يضرها.