تحتفل مصر والعالم أجمع فى الأول من مايو من كل عام بعيد العمال، اعترافا وتأكيدا بأهمية الدور الذى يلعبونه فى العملية الإنتاجية وبالتالى المساهمة فى النهوض بالبلاد، وتعد هذه المناسبة فرصة جيدة لدراسة أحوالهم وتطورها خلال العام المنصرم بغية وضع أفضل السبل للتعامل مع المشكلات والتحديات التى يواجهونها. ويأتى على رأس هذه الاهتمامات سياسة الأجور باعتبارها القضية المحورية خاصة فى ظل ما تشهده الأسواق المصرية من ارتفاعات متتالية فى المستوى العام للأسعار عموما والسلع الغذائية على وجه الخصوص. وهنا يجب التفرقة بين انخفاض معدلات التضخم، وارتفاع الأسعار وتدلنا الخبرات الدولية المختلفة، فى معظمها، على أن النمو الاقتصادى يؤدى إلى المزيد من العمل مقابل أجر، فتطور المجتمعات غالباً ما صاحبه زيادة فى علاقات العمل الأجرية، وعلى الرغم من زيادة نسبة العاملين بأجر من 60٫8% عام 2014 الى 69٫8% عام 2016 فإنها تراجعت عام 2017 لتصل الى 68٫1% وهنا لابد من تأكيد ضرورة ألا يقتصر النظر إلى الأجور باعتبارها مجرد عنصر من عناصر التكاليف فحسب، بل يجب أن يتعداه ليشمل النظر إليها باعتبارها مصدر الدخل الأساسى لقطاع عريض من المجتمع. ولما كان الأصل الأساسى لدى الفقراء هو العمل، باعتباره السبيل الوحيد أمامهم لكى يتغلبوا على فقرهم، فان ذلك يعنى قبل كل شيء إزالة التمييزات التى تميل لكبت عائدات العمل، وهنا يشير بحث الدخل والإنفاق إلى أن 35٫6% من إجمالى الأسر الفقيرة التى يرأسها رجال يعملون بأجر نقدي، وكذلك فإن 53٫2% من إجمالى الفقراء يعملون فى القطاع غير الرسمى مقابل 35% فى القطاع الخاص و12% فى القطاع الحكومي. وبالتالى يجب الحرص على أن يتم العمل فى ظروف تضمن المساواة والحماية وهو ما تطلق عليه منظمة العمل الدولية «العمل اللائق» والذى يشترط فيه أن يدر دخلا عادلا وأمانا فى مكان العمل وحماية اجتماعية للأسر وآفاقا أفضل للتنمية الذاتية للأفراد وكذلك الاندماج فى المجتمع. ويضمن حصول العاملين ذوى الإنتاجية المتماثلة والذين يعملون فى وظائف متساوية على أجور مماثلة. صحيح إن الأجور تتفاوت فعلا بالنسبة للمهام المختلفة والمحددة بمهن معينة ولكنها لا تعكس الإنتاجية بصورة مباشرة، وتعكس الفروق فى الأجور بين الأفراد إلى حد كبير اختلاف ظروف العمل أو اشتراطات الوظيفة. ونلحظ ان متوسط الاجر الأسبوعى للعامل فى منشآت القطاع العام وقطاع الاعمال العام بلغ نحو 1154 جنيها، مقابل 670 جنيها لدى القطاع الخاص. وعلى النقيض من ذلك فان متوسط ساعات العمل لدى الأول تصل الى 52 ساعة أسبوعيا، مقابل 54 ساعة لدى الثاني. ويرتبط بهذه المسالة مدى الاستقرار فى سوق العمل اذ تشير الإحصاءات الى ان من يعملون عملا دائما وصل الى 72٫7% وفى المقابل ارتفعت نسبة العاملين فى عمل متقطع الى 20٫4%. ونلحظ أن نحو 90% ممن يعملون عملا متقطعا هم فى القطاع غير المنظم والذى يستحوذ أيضا على نحو 86٫1% ممن يعملون عملا موسميا. اما العاملون عملا مؤقتا فان 63٫1% منهم فى القطاع الخاص المنظم مقابل 21٫6% فى القطاع غير المنظم. وتكمن خطورة هذا الوضع ليس فقط فى عدم الاستقرار الداخلى لسوق العمل ولا لصعوبة وضع أو رسم سياسات محددة وصعوبة تنظيم الأوضاع بداخل السوق مع ما يتلاءم واحتياجات المجتمع. ولكن أيضا للظروف السيئة التى يعمل فيها هؤلاء. وخير دليل على ذلك أنه وبينما تصل نسبة العاملين بعقد قانونى الى 43٫5% من إجمالى العاملين باجر فى المجتمع ككل، خلال الربع الرابع من عام 2017، فان هذه النسبة تصل الى 1٫3% فقط لدى القطاع الخاص خارج المنشآت. ووصلت نسبة المشتركين بالتأمينات الاجتماعية إلى 48٫3% على صعيد المجتمع فإنها تصل الى 10% فقط لدى هؤلاء. وكذلك تبلغ نسبة المشتركين فى التامين الصحى نحو 40٫7 % لدى المجتمع ككل ولكنها تهبط الى 2% لدى هذا القطاع. فى هذا السياق يتم الحديث عن سياسات الأجور فى مصر، وهنا يوجد العديد من الملاحظات الأولى ان البعض مازال يقصر هذه السياسة على العاملين بالحكومة وقطاع الاعمال العام، رغم أن هؤلاء لا يشكلون سوى 31٫5% فقط من إجمالى المشتغلين بأجر مقابل 33% لدى القطاع الخاص ومثلهم لدى القطاع غير الرسمي. وبالتالى الحديث يجب أن يشمل كل المشتغلين فى المجتمع. وهو ما نص عليه الدستور المصرى وكذلك القوانين المعمول بها، والتى أكدت الحق فى الحصول على أجر عادل مقابل أداء العمل والعمل على الحد من التفاوتات فى الأجور وربطها بالإنتاج والإنتاجية. مع ضرورة وضع حد أدنى للأجور على مستوى المجتمع ككل وحد أقصى فى أجهزة الدولة لكل من يعمل بأجر. الإصلاح الحقيقى يبدأ من ضرورة الالتزام بتحديد حد أدنى للأجور ينطبق على الجميع، ويضمن تعزيز العمل اللائق ورفع الإنتاجية وتقليل الفقر بين العمال، خاصة أن السياسة الراهنة أدت الى تطبيقه على القطاع الحكومى فقط دون القطاعات الأخرى، وهو ما جعل العاملين بهذا القطاع يتمتعون بمزايا لا يتمتع بها القطاع الخاص ومن ثم أصبح جاذبا للعمالة على عكس ما تهدف إليه السياسة العامة للدولة. ومع تسليمنا الكامل بضرورة الأخذ بعين الاعتبار عدة محاذير حتى تؤتى هذه السياسة ثمارها، منها التوازن بين حماية العما، وإيجاد الحافز لدى الشركات على الاستثمار والتشغيل، حتى لا يؤدى إلى خفض العمالة. وبمعنى آخر فان سياسات الحد الأدنى يجب إن تتسم بالكفاءة والمرونة، ناهيك عن ضرورة ضمان الالتزام بقوانين العمل فى ضوء الواقع المعاش والذى أضحت فيه أسواق العمل غير الرسمية تلعب دورا مهما فى هذا المجال، خاصة أن هذه الاشتراطات لا تطبق إلا على القطاع الرسمي. وبالتالى من المهم ألا يكون الحد الأدنى مغالى فيه. ومن الضرورى أن يفرض هذا الحد بقانون وعبر التدخل المباشر من الحكومة عن طريق التشريع، فى ضوء ما تتسم به أسواق العمل من خصوصية. ويتطلب تفعيل دور المجلس القومى للأجور ليصبح الفاعل الرئيسى فى هذا المجال والذى يضع الاستراتيجية المناسبة للتعامل مع كل الأمور المرتبطة بها، مع منحه الصلاحية الكاملة لتنفيذ ما يراه مناسبا من سياسات. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى