أحاول يا رفاقى فى هم وصبر وأسى وتعب مهنة أصحاب القلم والهم.. وأنتم تخطون خطواتكم الأولى فى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة.. ونحن نعيش هذه الأيام.. أعياد تحرير سيناء الحبيبة بأغلى ما يملكه الإنسان.. وهى روحه.. فكم من أرواح شهدائنا التى صعدت إلى بارئها راضية مرضية.. أقول: أحاول يا رفاقى أن أعود بكم إلى حديث شاعرنا الرائع الذى اسمه نزار قبانى ونحن نجلس ذات مساء فوق ربوة فى جبل قسيون فى سوريا الحبيبة قبل سنوات عددا.
الذى كان أيامها يتلألأ بالنور.. بالضياء بالحب بالود بالونس وهو يحدثنى عن أمة العرب التى تتكالب الأمم من حولها تآمرا وتقطيعا.. كل واحدة منها تريد أن تنهش لحما ودما وأرضا.. وانظروا إلى ما يحدث فى سوريا وليبيا والعراق الآن.. يسألونني: ماذا قال لك نزار يومها يا تري؟ قلت: قال: أحاول أن أتصور ما هو شكل الوطن؟ أحاول أن أستعيد مكانى فى بطن أمي.. وأرجع بتيار الزمن.. أحاول أن أتخيل جنة عدن. ويا وطنى جعلوك مسلسل رعب نتابع أحداثه فى المساء.. قلت له يومها على ما أذكر: وفى الصباح نسمع نواحا فى البيوت وسطور حزن ورثاء ودم ودموع وحبر أسود بلون عناوين الصحف! قلت للرفاق: تعالوا نواصل حديثنا ونحن نركب هذه المرة زورقنا الجميل فى حب مصر.. ومازلت أذكر اننى وأنا فى تانية ابتدائى فى المدرسة الأميرية فى شبين الكوم... كان المذياع القديم الخشبى الذى يشبه نافذة الجوامع والمعلق فوق رف عال فى غرفة الجلوس... سمعت منه لأول مرة محمد عبد الوهاب وهو يغني: «حب الوطن فرض عليا.. أفديه بروحى وعنيا». وأيامها سمعت أم كلثوم وهى تغنى لشباب الجامعة من شعر أحمد رامى وألحان رياض السنباطي: يا شباب النيل يا عماد الجيل.. هذه مصر تناديكم فلبوا... دعوة الداعى إلى القصد النبيل.. وأيامها غنى محمد عبد الوهاب كلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل: نحن جند النصر أبطال الدفاع... يوم يدعونا لناد الهول داع.. ومازلت أذكر النشيد القومى المصرى الذى كتبه الشاعر محمود صادق ووضع موسيقاه عبد الحميد عبد الرحمن والذى تقول كلماته: بلادى بلادى فداك دمي.. وهبت حياتى فداء فاسلمي.. سأهتف باسمك ما قد حييت.. تعيش بلادى ويحيا الملك.. وكنا نردده صغارا مع تعظيم سلام للعلم المصرى الأخضر الجميل بهلاله ونجومه الثلاث فى طابور الصباح فى المدرسة الأميرية بشبين الكوم... ويصحح لى الشاعر مصطفى عبد الرحمن مؤلف كتاب «أغنية الكفاح» البيت التالى من النشيد بقوله: لقد كان النشيد ينتهى بعبارة «يحيا الوطن» ولكن السراى الملكية أيامها عدلتها إلى «يحيا الملك». وها هو محمد عبد الوهاب ينادى بكلمات أحمد شوقي: إلام الخُلف بينكم إلاما.. وهذه الضجة الكبرى علاما؟ وكأنه يغنيها للعرب اليوم وهم يواجهون عدوا شرسا لا يعرف إلا لغة الدم والقتل وذبح الأطفال! وها هى أم كلثوم تنادى بكلمات حافظ إبراهيم: إننى حرة كسرت قيودي.. رغم أنف العدا وقطعت قيدي.. أترانى وقد طويت حياتي.. فى صراع لم أبلغ اليوم رشدي وها هو فريد الأطرش يهز كل المشاعر بكلمات يوسف بدروس: يا مصر كنت فى غربة وحيد.. ويوم ما جيتلك كان يوم عيد ثم تهب مصر كلها حربا ونارا وكفاحا ضد قوات المحتل الانجليزى فيما عرف فى التاريخ المصرى بمعارك القناة.. وانطلقت الأغنية الوطنية مع فرحة الحرية التى ظفر بها الشعب إلى آفاق لا نهائية من الحماس والفرحة والإحساس الرائع بالتحرر. لنردد كلنا مع أم كلثوم أشعار أحمد رامى وألحان السنباطي: مصر التى فى خاطرى وفى دمى أحبها من كل روحى وفمى أحبها للموقف الجليل من شعبها وجيشها النبيل دعا إلى حق الحياة لكل من فى أرضها وثار فى وجه الطغاة مناديا بحقها وقال فى تاريخه المجيد يا دولة الظلم أمحى وبيدى
صورة نادرة تجمع أم كلثوم وفريد الأطرش وزكريا أحمد ورياض السنباطى ووراءهم الموسيقار محمد القصبجى
وهنا بدأ العصر الذهبى للأغنية الثورية، فقد كانت هذه الفترة ألمع فترة فى تاريخ الأغنية الوطنية، ولأول مرة فى تاريخنا تطغى الأغنية الوطنية على الأغنية العاطفية، ويترقب طلبها الجمهور الذى كان لا يطرب ولا يهتز إلا للون العاطفى من الأغاني. ولأول مرة كما قلت فى كتابي: أيام فى القلب نرى الجماهير تلتهب أكفها بالتصفيق لعبد الحليم حافظ الذى عاش فى أسماعنا منذ بدء الثورة حاملا لنا وقود ثورة مستعيدة ألحان الفنان الكبير كمال الطويل وكلمات صلاح جاهين: قلنا حانبنى وادينا بنينا السد العالي يا استعمار بنيناه بايدينا.. السد العالي.. من أموالنا.. بايد عمالنا.. هى الكلمة وادى احنا بنينا.. إخوانى تسمعوا الحكاية.. بس قولها من البداية.. هى حكاية شعب للزحف المقدس قام وثار.. شعب زاحف خطوته تولع شرار.. شعب كافح واتكتب له الانتصار... ومن بعدها نظم صلاح جاهين ولحن الطويل وغنى عبد الحليم وغنت معهم مصر كلها: بالأحضان يا بلادنا يا حلوة... بالأحضان وهنا نتوقف لنسجل أن الأغنية الوطنية قد استطاعت أن تجتذب قلوب الملايين من أبناء الوطن العربى وأن تشعلهم حماسة متقدة. واستطاعت أم كلثوم ونجاة وشادية وفايزة من المطربين، وعبد الوهاب والطويل والأطرش والموجى والسنباطى والشريف وبليغ وصدقى وعبد الحق من الملحنين، وأحمد رامى ومحمود حسن إسماعيل ومرسى جميل عزيز وحسين السيد وفتحى قورة وصلاح جاهين وعبد الفتاح مصطفى وأحمد شفيق كامل وإسماعيل الحبروك من المؤلفين الذين أسهموا فى ترجمة مشاعر أبناء هذا الوطن إلى كلمات وأنغام وأن يقطعوا شوطا بعيدا فى تطوير الأغنية الوطنية، ولا أدل على فاعلية الأغنية الوطنية والأناشيد فى هذه الفترة التى اختلط فيها السيف بغصن الزيتون أن نسجل هنا ما جاء بصحيفة الهيرالد تريبيون الأمريكية أيامها من أن أم كلثوم وعبد الوهاب سلاحان من أخطر أسلحة عبد الناصر. نعم لقد كانت الأغنية الوطنية من أخطر أسلحة الكفاح، فقد اجتازت الحدود وضربت فى قلب العدو، وأرقت مضاجع الملوك والحكام الذين خرجوا على إرادة الشعوب العربية! يصفق الشباب الصغير من حولى فى حب وحماس.. يسألنى الرفاق الذين سوف يسطعون يوما ما فى سماء صاحبة الجلالة: لقد عاصرتم ثورة 1952 وماذا كنتم تغنون وتنشدون أيامها يا تري؟ قلت: عندما قامت ثورة 1952 كنت فى تانية ثانوى فى مدرسة القناطر الخيرية وقد انفعلنا وتحمسنا للثورة التى سوف تخلصنا من الاقطاع والاستعمار وأعوانه و،تخلصنا من الفقر والبطالة وسائر هموم الوطن... ومازلت أذكر أن أول أغنية كان الناس يتجمعون حول أجهزة الراديو فى الأكشاك والمقاهى لسماعها قبل ظهور التليفزيون طبعا هى أغنية المطرب الأصيل محمد قنديل «عالدوار» والتى تقول كلماتها على ما أذكر: عالدوار عالدوار راديو بلدنا فيه أخبار قم دى الساعة تمانية ونص والراديو عمال بيرص.. بالأخبار قلبك يتهني.. كنا فى نار وبقينا فى جنة.. ثم أغنية ياصحرا لكارم محمود التى تقول كلماتها: ياصحرا المهندس جاي.. المهندس جاي.. يرويكى بعيون المي.. المهندس جي.. يا صحرة المهندس قال حنخلى ترابك أموال.. الصحرة تتباع بريال والحجرة بريال وشوى المهندس جاي.. كانت أيام ما أجملها من أيام .. ويصفق الرفاق من جيل الصحفيين الشباب حبا وتطلعا وأملا فى غد مشرق بسام.. قولوا يارب
-------------------------------------------
{ نعم لقد كانت الأغنية الوطنية من أخطر أسلحة الكفاح، فقد اجتازت الحدود وضربت فى قلب العدو، وأرقت مضاجع الملوك والحكام الذين خرجوا على إرادة الشعوب العربية!»