مازالت أصداء مشروع القانون الذى أصدره مجلس النواب والخاص بتعديل رواتب رئيس مجلس النواب والوزراء والمحافظين ليعادل صافيها الحد الأقصى للأجور، مع تعديل رواتب نواب الوزراء والمحافظين لتصبح صافيها معادلا 90% من الحد الأقصى للأجور، تثير العديد من الحوارات والنقاشات فى ظل الأوضاع العامة فى مصر. والسؤال لماذا نص المشروع المقترح على الحد الأقصى للأجور وليس للدخول، بينما القانون رقم 63 لسنة 2014 يتحدث عن الحد الأقصى للدخول وشتان الفارق بينهما. ومن الغريب أن بعض أعضاء مجلس النواب الذين وافقوا على القانون بأغلبية كاسحة خرجوا علينا فى البرامج الحوارية التليفزيونية ليعلنوا تحفظهم عليه بل ووصل الأمر لمطالبة رئيس الجمهورية بعدم التصديق عليه وإعادته للمجلس مرة أخري، بينما طالب البعض الآخر بتعديله فى دور الانعقاد المقبل، والثالث طالب بإدخال بعض التعديلات على اللائحة التنفيذية للقانون، متجاهلا أن اللائحة تفسر القانون ولا تنشئ أوضاعا قانونية جديدة وقد أثير العديد من الحجج لتبرير هذا المشروع منها أنه مجرد تقنين لأمر واقع وهى عبارة غريبة تماما، لأنها لا تفرق بين الأمر الواقع السليم أو غير السليم، بعبارة أخرى فهناك العديد من الأمور المنتشرة واقعيا ولا يمكن تقنينها بأى حال, فهل انتشار الرشوة يدعو الى تقنينها مثلا!. الأدق أن يطرح الموضوع باعتباره إصلاحا لاختلالات قائمة, بل ومخالفة دستورية صريحة حيث نصت المادة 166 من الدستور على عدم جواز تقاضى أى رواتب أو مكافآت أخري، مع ملاحظة أن ما يحصل عليه الوزير كان 32 ألف جنيه شهريا بينما المشروع الجديد يرفعه الى 42 ألفا صافيا أى بعد استقطاع الضرائب والتى إذا اضفناها تصل بالمبلغ الى 50 ألف جنيه بنسبة زيادة قدرها 36%. ومن الأمور التى يجب التوقف عندها الحديث المتكرر عن كون وظيفة الوزير تتطلب كفاءات معينة لا توجد إلا بهذه الرواتب، وعلى الرغم من صحة هذه المقولة إلا أننا نرى وبنفس المنطق وجود العديد من الوظائف الحكومية التى تحتاج إلى كفاءات لا تقل كفاءة عنها والأمثلة على ذلك عديدة ومتنوعة الأهم من ذلك أن المشروع تم إقراره قبل إلقاء وزير المالية بيانه المالى عن مشروع موازنة العام المالى 2018/2019 بأيام قليلة، ومعروف أن هذه الموازنة تتناول ضمن ما تتناول سياسات الأجور المزمع تنفيذها، لذلك كان من الأفضل اقتصاديا وسياسيا أن تناقش هذه السياسة فى إطار الموازنة الجديدة والتى تضع الأطر العامة المنظمة لسياسة الأجور داخل القطاع الحكومي, وخاصة أن البيان المالى يرى أن المشكلة الأساسية فى الموازنة ترجع الى الأجور، لذا كرر القول أكثر من مرة، بالنجاح فى السيطرة على نمو فاتورة الأجور كمحور أساسى للإصلاح المالى وهى نظرة خاطئة تماما وهنا نلحظ أن فاتورة الأجور بمشروع الموازنة العامة للعام المالى 2018/2019 بلغت 266 مليار جنيه، وبالتالى أصبحت لا تمثل سوى 18.7% من إجمالى المصروفات العامة مقابل 26.3% عام 2015/2016 بينما فوائد الدين العام أصبحت تشكل 38% مقابل 30% و31% خلال نفس الفترة, فاذا ما أخذنا بالحسبان أن الزيادة فى الأجور تقدر بنحو 11% يذهب معظمها للعلاوات الدورية والتشجيعية بالإضافة إلى الترقيات والتعيينات الجديدة وتكاليف المنقولين من الأبواب الأخرى الى الباب الأول، لتضح لنا أن الزيادة فى الأجور محدودة للغاية ما لم يصدر قانون جديد بالعلاوات الخاصة وجدير بالذكر أن الاجور تمثل أهم الطرق التى تستطيع بها الحكومات ضمان الحد الأدنى من المستويات المعيشية اللائقة لقطاعات لا بأس بها من السكان, وهنا لابد من تأكيد ضرورة ألا يقتصر النظر إلى الأجور باعتبارها مجرد عنصر من عناصر المصروفات فحسب، بل يجب أن يتعداه ليشمل النظر إليها باعتبارها مصدر الدخل الأساسى لهذا القطاع. صحيح أن الأجور تتفاوت فعلا بالنسبة للمهام المختلفة والمحددة بمهن معينة ولكنها لا تعكس الإنتاجية بصورة مباشرة، وتعكس الفروق فى الأجور بين الأفراد إلى حد كبير اختلاف ظروف العمل أو اشتراطات الوظيفة، بل وحتى مع أخذ هذه الظروف بعين الاعتبار يكون هناك قدر من الاختلاف فى الأجور لبعض الأمور الأخري, ناهيك عن ضرورة علاج الأوضاع القائمة حاليا والتى أصبحت أكثر تعقيدا حيث يخضع بعض العاملين بأجهزة الدولة لقانون الخدمة المدنية وعددهم 2.5 مليون موظف بنسبة 47% من الإجمالي، والبعض غير مخاطب بالخدمة المدنية وعددهم 2.9 مليون بنسبة 53% من الاجمالي, ناهيك عن الهيئات الاقتصادية والوحدات العامة التى لا ينطبق عليها القانون وهنا تظهر أولى المشكلات حيث غير قانون الخدمة المدنية من نظام الأجور تغييرا جذريا ليصبح الحديث هنا عن الأجر الوظيفى والذى يساوى الأجر الأساسى للموظف فى 30/6/2015 متضمنا العلاوات الخاصة المضمومة وغير المضمومة، والعلاوة الاجتماعية الموحدة والإضافية ومنحة عيد العمال وعلاوة الحد الأدنى وما يعادل نسبة 100% من الأجر الأساسى فى 30/6/2015. والعاملون وفقا لهذا القانون يحصلون على علاوة دورية 7% من الأجر الوظيفى بينما يحصل غير المخاطبين على علاوة دورية لا تزيد عن 6.5 جنيه شهريا. ومما زاد من تعقيد المشكلة ما نصت عليه المادة الخامسة من القانون رقم 16 لسنة 2017 والتى بمقتضاها تم تحويل الحوافز والبدلات والمكافآت وغيرها من بنود الأجر المتغير إلى فئات مالية مقطوعة وليست نسبا من الأجر الأساسى كما كان متبعا من قبل. ومع تسليمنا الكامل بعدالة هذا التوجه تماما إلا ان المشكلة تكمن فى أن هذه الجهات لم تضع حتى الآن سياستها للأجر المكمل ومن ثم أصبحوا لا يحصلون إلا على هذه العلاوة الضئيلة للغاية. وهنا أيضا تبرز مشكلة المعاملة الضريبية لكل منهما إذ انه وبمقتضى الخدمة المدنية تم ضم كل من العلاوات الاجتماعية والعلاوات الخاصة والبدلات المعفاة بقوانين خاصة إلى الأجر الوظيفي، وبالتالى إلغاء الإعفاء الذى كانت تتمتع به وأصبحت ضمن الوعاء الضريبي، وهكذا فإن هؤلاء يدفعون ضرائب أكثر من زملائهم غير الخاضعين, وهذه الأوضاع أدت إلى اختلالات عديدة فى توزيع الأجور نتيجة لأوضاع قانونية ولا علاقة لها بالإنتاجية وهى جوهر المشكلة التى يجب النظر اليها بصورة شاملة للخروج من هذه الأوضاع المأساوية. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى