كتب المرحوم إدوارد سعيد فى الأهرام الأسبوعية الناطقة بالانجليزية (عدد 15-21 مارس، سنة 2001) مقالة تحت عنوان «فرويد والصهيونية وفيينا»، وروى فيها قصة أراد لها أن تكون مثلا تستخلص منه العبر. والقصة باختصار هى أنه خلال زيارة قام بها إلى أهله فى لبنان ذهب إلى الجنوب مثله مثل كثير من اللبنانيين ليرى «المنطقة الأمنية» التى احتلها الجيش الإسرائيلى لاثنتين وعشرين سنة وأقام فيها سجن الخيام لتعذيب المعتقلين والتنكيل بهم؛ ثم أجلي الإسرائيليين عنها «بطريقة فظة» بفضل المقاومة اللبنانية. وهناك التقطت لإدوارد دون علمه صورة وهو يرمى حصاة على سبيل الاحتفال كما كان يفعل اللبنانيون. وكانت المنطقة مهجورة لأميال بعدها أميال، وكانت خالية من الإسرائيليين - عسكريين ومدنيين - ومن أى هدف يمكن أن يصاب. ومع ذلك، فلم يمض يومان بعد تلك الحادثة إلا وقد انتشرت الصورة فى الصحف فى إسرائيل وفى جميع أنحاء البلاد الغربية. وأصبح الرجل هدفا لحملة ضارية من الأكاذيب والتشهير بوصفه إرهابيا يناصر العنف، ومتعصبا ذميما يدعو إلى قتل اليهود، إلى آخر تلك التهم التى برعت آلة الدعاية الصهيونية فى تلفيقها وإذاعتها على أوسع نطاق ضد كل من تسول نفسه انتقاد الاحتلال الإسرائيلى، ولو بالهمس والإيماء، ولو بطريقة رمزية. وكان من بين أهداف الحملة - التى شملت المقالات والتعليقات الصحفية، وخطابات الشتم والإساءة، والتهديدات بالقتل - أن يطرد الرجل من الجامعة التى اشتغل بالتدريس فيها لثمان وثلاثين سنة. كل ذلك من أجل حصاة رماها فى أرض فضاء. وأتوقف عند هذا الحد من مقالة إدوارد سعيد، وإن كانت تغرينى بأن أترجمها كاملة. ولو أنه كان حيا لسألته أن يأذن لى باستخلاص بعض العبر من المثل الذى ضربه. فهناك أولا نقطة انطلاق واضحة لا أحسبه كان ليختلف معى فيها. وهى أن الحصاة التى رماها فى تلك الأرض الفضاء ذكرت الصهاينة بالأطفال الفلسطينيين الذين كانوا يقذفون جنود الاحتلال بالحجارة. أما ما سأستخلصه من تلك الحقيقة، فهو أمر يخصنى وحدى. فأقول ما يلي: لقد كان من الطبيعى أن تستفز تلك الحصاة التى رميت فى البرية الصهاينة وتشعل غضبهم العارم، لأنها كانت على وجه التحديد لا تؤذى أحدا ولا شيئا: لا جنديا ولا مدنيا ولا كلبا ولا قطة ولا شجرة. فيكفى أنها كانت شكلا من أشكال التذكير والاحتجاج. والصهاينة يرون - ومعهم أطراف أخرى فى العالم - أن ليس من حق الفلسطينيين دون سائر الشعوب أن يحتجوا على أى نحو من الأنحاء على أن تؤخد منهم أرضهم غصبا، وأن يطردوا منها بلا عودة، بل وليس من حقهم أن يتذكروا ما حدث أو يذكروا الغير به. وليس فى هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ فهكذا يفكر كل مغتصب. والمصيبة فى نظر الصهاينة أن رماة الحجارة أطفال، وأن إدوارد تصرف كأنه واحد منهم فى أثناء تلك الزيارة «البريئة» إلى الأرض التى أخرجوا منها مهانين. والمصيبة أن الأمهات الفلسطينيات لا ينضب لهن معين فى إنجاب أؤلئك الشياطين الذين يظهرون على مسرح الأحداث فيرى الصهاينة ما لا يطاق: يرون أفواجا بعدها أفواج من المحتجين والمقاومين. ويرون صبية مثل عهد التميمى. وهناك اليوم أنباء تتوارد عن إحصاءات أصدرتها سلطات الاحتلال وتدل على أن أعداد الفلسطينيين ما بين النهر والبحر أصبحت تعادل أعداد الإسرائيليين. ويوجد فى إسرائيل من يتشكك فى هذه الأرقام. ولكن ليس لتلك الشكوك من أهمية تذكر فى التقليل من شأن المخاوف الصهيونية. فما لم تحققه الأرحام الفلسطينية اليوم سيتحقق غدا. ويمكننا بناء على ذلك أن نتفهم لماذا لا يروق للصهاينة أى حل: لا حل الدولتين، ولا حل الدولة الواحدة. ولا يرضيهم فى الوقت الحاضر إلا أن يتوسعوا وأن يبتلعوا أرض فلسطين التاريخية قضمة بعد قضمة. وهذا بدوره ليس حلا، ولكنه مخدر يعطى شعورا زائفا وقصير الأجل بالأمان، وذلك لأنه يقوم على ممارسة القوة ويستدعى أخذ جرعات أكبر، واستخدام اليد الطولى فى الداخل وفى الخارج، وفيما وراء السور الواقى، وما فوق القبة الحديدية، وفى أى مكان فى العالم سواء أكان فى تونس، أم فى العراق، أم فى سوريا، أم فى دبي. وذلك ليس بحل لأنه ينشئ دولة أبارتايد (فصل عنصرى). ونتفهم أيضا لماذا كان الراجمون بالحجارة ذ حتى ولو كانوا أطفالا أو مفكرا فلسطينيا مسالما يعشق الموسيقى ويشجع اشتراك الشباب من الفلسطينيين والإسرائيليين فى عزف المؤلفات الكلاسيكية - ليسوا أقل خطرا من راجمات الصواريخ. كان إدوارد سعيد فيما يقول معتدلا يدعو إلى تعايش الشعبين فى ظل سلام مع العدل. سلام مع العدل يا أستاذ إدوارد؟! هذا فى نظر الصهاينة أسوأ الحلول وأشدها نكرا. فذلك هو حل الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية التى نادت به منظمة التحرير الفلسطينية فى سالف الدهر والزمان. وعلى الفلسطينيين أن يسقطوا من حساباتهم وكلامهم مفهوم العدل تماما. وعليهم أن يقنعوا بالسلام. السلام نعم وأهلا به ومرحبا، ولكن ينبغى أن يحل بلا عدل. أن يكون بمعنى الاستسلام دون قيد ولا شرط. أو أن يُرحلوا (بتشديد الحاء) إلى أرض أخرى، أو أن يختفوا من على ظهر البسيطة. بل وعليهم مع كل ذلك أن يحبوا الإسرائيليين، وأن يشكروهم على أياديهم البيضاء، بما فى ذلك هدم المساكن، وتدمير القرى، واجتثاث الشجر. وأعود إلى الدكتور سيجموند فرويد. لقد وافق بعد لأي - أي بعد ما فعله النازيون باليهود - على إنشاء دولة إسرائيل، ولكنه أعرب عن الأسف لأنها أقيمت على الأرض التى أقيمت عليها. ويدل هذا الأسف على أن الدكتور لم يكن بالرجل الساذج. فلقد كان ثاقب النظر؛ وكأنه كان يقرأ المستقبل ويرى المآسى المروعة قبل أن تقع فى الأرض المشار إليها وفى البلدان المحيطة بها. فما هو الحل؟ ليس هناك مفر من قيام تلك الدولة الواحدة التى نادت بها الثورة الفلسطينية فى بداية عهدها، وحلم بها إدوارد سعيد. وهذا الحلم هو أفظع الكوابيس بالنسبة للصهاينة، ولكنه هو الحل الواقعى، وإن طال الزمن، وحال دونه للأسف كثير من العنف والدمار. لمزيد من مقالات ◀ عبد الرشيد محمودى