الحب والحق والوفاء والخير ليست مجرد كلمات ولكنها مواقف حياة، فالكلمات تظل مجرد حروف تموت علي صفحات الأوراق حتي تتحقق في حياة البشر. فماذا يفيدنا لو كتبت آلاف الكتب عن الجمال والحق والخير، والقبح والخيانة والكراهية تحيط بنا؟! وماذا يفيدنا لو سمعنا كلمات وقصائد يتلوها علي مسامعنا البعض، وفي المواقف نجد عكس هذا؟! وماذا يفيد الوطن حين تكتب المقالات وتنشر الأغاني عن حب الوطن، وحين يحتاج الوطن للبناء أو الحماية يهرب هؤلاء. فالحياة مواقف والإنسان موقف. ففي تاريخنا وحياتنا نري هذا وتلك وبينما نتألم حين نطعن بسكين الخيانة نفرح بالأيادي التي تضمد هذا الجرح، وبينما نري من يتآمر ويصنع الشر نري أيضاً من يحتضن ويقدم الخير والحب. هكذا أمر البشرية منذ أن دخلت فيها عناصر الشر والفساد. في مدينة أثينا عام 399 ق.م. عاش سقراط قال عنه تلميذه أفلاطون: «إنه أعقل وأعدل وأحسن من عرفت من الناس في حياتي». وكانت المدينة غارقة في التعددية الإلهية نادي هو بالإله الواحد، وكانت هناك انحرافات سياسية تصنع باسم الديمقراطية فنادي هو بالديمقراطية الواعية فقال: «لا يجوز للديمقراطية أن تلغي ذوي الكفاءة والخبرة والذكاء فالانتخابات وحدها لا تحقق العدل في أوقات وظروف معينة». وحين واجهت أثينا حرباً مع إسبرطة خلع ثوب الفلسفة ولبس ملابس الجندية وحارب لأجل الوطن، بل كان شجاعاً حتي نال وساماً عن شجاعته في الحروب وتنازل عنه لأحد رفاقه في الحرب. ولأجل مواقفه وتعاليمه تآمر عليه من لا يحتملون الحق والخير وكان منهم الكاتب الشهير في عصره «أريستوفان» الذي كتب مسرحية ساخرة ضد سقراط واسمها «السحاب». وانتهز الحكام وكهنة المعابد الوثنية هذا المناخ وقدموه للمحاكمة. وقال له القاضي: «اعتذر عن أفكارك وتراجع عن تعاليمك وأنا أعفيك من الموت». أما هو فلم يكن قادراً أن يعيش مزيفاً يقول شيئا ويعيش شيئاً آخر فقال: «لن أمتنع عن قول الحق ما دمت حياً». فحكم عليه بالموت. ويوم إعدامه دخل عليه السجان باكياً وقال له: «يا أنبل وأفضل من جاء هنا لا تغضب مني إنها مهمتي» وناوله السم ليموت، وقبل أن يشربه قال لأحد تلاميذه الحاضرين: «لا تنس أن تدفع الدين الذي عليّ حتي لا يضار أحد بموتي». وتناول السم ومات. وهناك من احترف الكلمات الرنانة وادعاء البطولة والكلمات المعسولة وتعهدات الوفاء والحب ولكن حين يأتي وقت البطولة الحقيقية يهربون وأحياناً يخونون أيضاً. فالأبطال الحقيقيون هم أصحاب المواقف والمبادئ، هم من يحملون هموم الوطن بعزيمة البناء والفداء. الأبطال هم من يعيشون أيامهم لأجل الآخرين، من يحملون آلام المعذبين، من يناضلون ليسعدوا الآخرين. فالكلمات لا تصنع حياة ولكن العمل هو الحياة. وأقصي طعنات تصيب القلب تأتي ممن أحبوا بالكلام وخانوا بالأفعال. من يحمل قناعاً لملامح البراءة والخير ثم سقط القناع فنصدم في ملامح الخيانة والشر. فالحياة مواقف إما أن تعيش حقيقة أو تكون مزيفا، وعلي حسب تعبير شكسبير إما أن تكون أو لا تكون. هذا ما يتحقق بأفعالك، بمواقفك في الحياة وليست بالكلام أو الشعارات. وكتب الأديب العظيم «تشيكوف» قصة رائعة اسمها «الجراد» يحكي فيها عن زوجة لطبيب شاب هادئ جداً ووديع لا يحسن الكلام ولا يهتم بالأضواء أو المظاهر السطحية، بينما الزوجة كانت شخصية تافهة جداً تجري وراء الأضواء وتفتنها الكلمات حتي ولو زائفة. ففتحت بيتها صالونا لهؤلاء المشهورين اللامعين، وكانت تهتم جداً بأن يأتي إلي بيتها أي مشهور حتي وإن كان تافها، وكانت تشعر بوجودها وسطهم. وظلت تهمل زوجها وتنغمس في العلاقة مع هؤلاء التافهين حتي وصلت إلي أنها خانت زوجها مع هؤلاء إرضاء لرغباتهم حتي يستمروا في وجودهم معها. وبعد فترة انسحب هؤلاء عن حياتها وتركوها، وفي نفس الوقت مرض زوجها بعد أن امتص صديدا من فم غلام مصاب بالدفتريا، واشتد المرض علي الطبيب ورقد علي سريره يعاني الألم. وانتشر الخبر في المدينة فلم يفرغ البيت من الزوار الذين كانوا مرضي وشفاهم هذا الطبيب. واكتشفت الزوجة المعني الحقيقي للوجود، وأن زوجها هو أعظم كثيراً من هؤلاء التافهين الذين كانوا حولها من قبل، فالرجل الذي لم يحسن الكلام كان هو البطل الذي كان يجب أن تهتم بالوجود معه، ولكنها عرفت هذا وقد كان زوجها يلفظ أنفاسه الأخيرة لتفقد الحقيقة بعد أن انفتحت أعينها عليها. ويذكر شارلي شابلن أعظم كوميدي في تاريخ السينما أنه حينما كان صغيراً ذهب برفقة أبيه لمشاهدة السيرك ووقفوا في طابور طويل لحجز التذاكر. وكان أمامهم عائلة مكونة من ثمانية أشخاص الأب والأم وستة أولاد وكانت تبدو عليهم حالة الفقر ولكن كان الأطفال في حالة سعادة لأنهم سيذهبون لرؤية السيرك. وتقدم الأب إلي الشباك وسأل علي سعر تذكرة الدخول، وبعد رد عامل الشباك عليه صمت الأب ونظر إلي الأرض نظرة بؤس وحيرة ونظر إلي أطفاله وهو يحبس دموعه وهمس في أذن زوجته التي أخذت تجمع أولادها لتعود. وهنا أخرج والد شابلن عشرين دولاراً ورماها علي الأرض ثم انحني والتقطها وأعطاها للرجل وقال له لقد سقطت منك هذه، إنها نقودك وابتسم في وجهه وهو يربت علي كتفه وسقطت دموع الرجل واحتضن والد شابلن. ولكن الأروع أنه أخذ ابنه وخرج من الطابور لأنه لم يكن معه سوي العشرين دولاراً. وهنا يقول شارلي شابلن، لقد كان هذا هو أعظم عرض رأيته في حياتي لقد علمني كيف أحب دون مقابل، وكيف أقدم السعادة للآخرين. عزيزي القارئ إنها الحياة الحقيقية التي يجب أن تكون. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس