كلما اقتربت بريطانيا خطوة من الإفاقة من كابوس العنف المفجع، صُدمت بما يتكشف عن عالم سرى غارق فى الجرائم الشاذة الذى يعيشه بعض شبابها ويهدد البعض الآخر. فبينما انشغل السياسيون، من مختلف الأحزاب، وأجهزة الشرطة والخبراء بالبحث عن سبل لمواجهة ما بات «أزمة وطنية»، راحت وسائل الإعلام تبحث، هى الأخري، عما يدور فى الدهاليز المرعبة لهذا العالم السري. وإذ بالبريطانيين يسمعون عن جرائم لا تصدقها آذانهم ولا تستوعبها عقولهم، وتجعل حسرة وزيرة الداخلية بسبب «تفاقم تعاطى الكوكايين والاتجار به» ضئيلة مقارنة بما يحدث فعلا فى الواقع. فعلى مدار الأسبوع الماضي، تجولت وسائل الإعلام، خاصة الصحف، فى العالم السرى الذى فتح بعض أبوابه لها أعضاء سابقون فى عصابات وشبكات إجرامية شبابية لترسم، لأول مرة، لمن يعنيهم الأمر فى البلاد صورة لم يعد يمكن السكوت عليها. فالعصابات الإجرامية تغرى الأطفال، فتيات وفتيانا، من سن الثامنة ليعملوا فى نقل المخدرات. وعندما يكبرون قليلا يُدربون على إخفاء الأسلحة النارية والبيضاء فى منازلهم دون علم أبائهم. وعندما يقتربون من سن المراهقة، يتبارون فيما بينهم فى تحقيق أكبر قدر من الأهداف، التى تبدأ من دخول مناطق العصابات الأخري، وتنتهى بإصابة أحد زعمائها بإصابة فى مناطق ظاهرة، كالوجه، تبقى معه طول حياته. أما جرائم الطعن والقتل بالرصاص، فيُدرب الصبى عليها حتى يصل لمرحلة ممارستها دون أن تهتز فيه شعرة. يحدث كل هذا والسلطات تنشغل بأرقام الجرائم ولا تسعى للتعرف على ما يحدث فى عالمها. ويقول أحد التائبين من أعضاء هذه العصابات، والذى يعمل الآن مستشارا لإحدى الجمعيات الأهلية المكافحة لثقافة العصابات، إن الشرطة وغيرها ليست لديهم رؤية لأنهم لا يعرفون حقيقة ما يجري، وكيف يتباهى أفراد هذه العصابات علنا بالطعن والقتل والاتجار فى المخدرات. وحياة الفتيات فى هذا العالم المغلق يصعب وصفها. وتكشف سيدة، كانت عضوة فى عصابة منذ قرابة عشرين عاما، ثم عملت مستشارة لوزارة الداخلية لشئون مكافحة جرائم العصابات، أسرارا مفجعة عما يحدث للفتيات وبهن. ففى بعض العصابات تستخدم الفتيات «لتقديم خدمات جنسية» لأعضاء العصابة حيث يتناوب على ممارسة الجنس مع الفتاة، أحيانا، عشرة شبان واحدا تلو الآخر. ولا يجد الشبان، ذوو الأدوار القيادية فى العصابات، حرجا فى استدعاء عشيقاتهن من الفتيات الصغيرات إلى منازلهم لتلبية رغبات ضيوفهم الجنسية، والأغرب أن الفتيات تستجبن لذلك عن رضا حتى تنلن إعجاب ما يعتقدن أنهم أحباؤهن. تقول المستشارة: إن بعض الفتيات فى سن 12 و13 سنة لجأن إليها طلبا للمساعدة للخلاص من حياتهن المهينة فى العصابات. وتنصح المستشارة الأمهات والآباء بأن يهتموا ببناتهن. فزعماء العصابات يصطادون الفتيات الصغيرات السن لأنهن أكثر سذاجة لدرجة يسهل إقناعهن بإخفاء عبوات المخدرات الخطرة والأسلحة النارية والبيضاء إرضاء للشبان. هذا العالم قائم منذ سنوات رغم وجود وحدة خاصة فى الشرطة البريطانية مكلفة بمهمة واحدة، هى مكافحة العصابات. وفى يوم فجر الخميس الماضي، شنت الوحدة موجة مداهمات لأوكار عصابات فى شمال لندن بناء على معلومات استخباراتية، وقبضت على 6 رجال و3 سيدات يتراوح سنهن بين 14 و49 عاما. لم تعط الشرطة إجابة مقنعة للسؤال : أين كنتم وهذا العالم السرى يتسع لينشر ثقافته بين الشباب لدرجة أن بلغ عدد جرائم السلاح الأبيض نحو 21 ألف جريمة فى انجلترا وويلز عام 2017، وهو أعلى معدل منذ سبع سنوات؟. يبحث صديق خان، عمدة لندن، التى تتصدر المدن البريطانية الأكثر تأثرا من الجرائم، عن إجابة. فجميع الوزراء المختصين والشرطة والخبراء فى «قمة وطنية طارئة». ونوقشت الكثير من الأفكار منها : تراجع أعداد رجال الشرطة، والتقشف الذى أدى لإغلاق مراكز الشباب، والرفض المجتمعى للتوسع فى استخدام الشرطة لسياسة «التوقيف والتفتيش». غير أن الأخطر، كما ينبه الكثير من ذوى الخبرة فى عالم العصابات، هو أن بريطانيا لم تجر، منذ 12 عاما، أى بحوث علمية جادة بشأن ظاهر عنف الشباب. وخلال هذه السنوات، تطورت طرق الاتصال والتنافس الإجرامى بين هذه العصابات وسبل نشرها ثقافة العنف والقتل، وأخطرها وسائل التواصل الاجتماعي. يشن الخبراء الآن حملة غير مسبوقة على هذه الوسائل، خاصة مواقع «يوتيوب» و»سناب شات« و»فيسبوك«. ويقولون إن هذه الوسائل «أعادت تشكيل ثقافة العصابات بقدر يفوق التخيل». وكشفوا عن أن تجنيد الشباب والفتيات يتم عبر فيديوهات تصور الشبان وهم يجرون فى الشوارع ويرفعون السكاكين لتبادل الطعنات. ويبرر حجم انتشار هذه الفيديوهات وصف ما يحدث فى شوارع بريطانيا بأنه «وباء وطني». فآخر التقارير، يقول: إن الشرطة تمكنت أخيرا من إنشاء قاعدة بيانات تضم قرابة 600 شخص يشتبه فى عضويتهم فى عصابات نشطة، وتظهر صورهم فى 1100 فيديو على يوتيوب. وبعد ضغوط بريطانية، استجابت شركة جوجل، مالكة يوتيوب، وأزالت فقط ثلث الفيديوهات المروجة لثقافة العصابات . ومع تصعيد الضغوط، قررت الشركة تجنيد خبراء مختصين فى اللغة التى تستخدمها العصابات وفك «الشفرات اللفظية» الواردة فى الفيديوهات. فى الوقت نفسه، استدعى جهاز الاستخبارات الداخلى البريطانى «إم آي-5» لتزويد الشرطة بمعلومات دقيقة عما يحدث فى عالم العصابات، الذى يحل، الآن على الأقل، محل الإرهاب، على رأس قائمة أكبر الأخطار الأمنية التى تهدد بريطانيا.