لا أحد يُنكر ما وصلت إليه الحضارة العربية والإسلامية مِن تقدُّمٍ فى فروع العلم المختلفة خاصة فى التراث العلمي؛ الأمر الذى جعل نصوص هذا التراث محطَّ دراسةٍ وبحثٍ وترجمةٍ فى أوروبا فى بداية نهضتها العلمية. لكنَّ هناك أسئلة مثارة بقوةٍ تتعلَّقُ بالإشكالات الخاصة بمقاربة النصِّ التراثيِّ العلميِّ مِن جهةِ خصوصية تحقيقه، وبمقاربته كذلك مِن جهة ترجمته التى تُجرى عادةً على النصِّ بعد تحقيقِه، ومِن هنا تثور فكرة ماذا يحدث فى أثناء عملية الانتقال مِن النصِّ المحقَّق إلى النصِّ المترجم، وكيفية المحافظة على هذا التراث والاستفادة منه؟ فى البداية يوضح د. فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات أهمية النظر إلى التراث العلمى من زاويتين أولاهما «تراث الفكر» لان هناك حركة للعقل العلمى العربى عبر التاريخ تمثلت فى الكتب العلمية وثانيتهما «تراث النص» الذى يعتبر مهما جدا فى المخطوطات العلمية لأنه يكشف لنا كيف توالدت هذه النصوص المنقولة للمخطوطات عبر التاريخ. وقال إن التراث العلمى له خصوصية حيث يعتبر تراثا نخبويا أى أن المهتمين به قلة لذلك عدد النسخ قليلة والتعليقات التى تكتب على حواشيها أيضا قليلة، وأخطاء النساخ كثيرة لأن الناسخ هو مجرد كاتب، كما أن هناك رموزا ومصطلحات تؤدى إلى التباس الأمور. وأشار إلى حدوث إشكالية عندما نحاول نقل التراث إلى لغتنا، فهناك مشكلة مع مصداقية النص التراثى نفسه ثم مع النص التراثى العلمى الذى يعتبر أشد صعوبة ووعورة فى التعامل معه. كيان عربى لإحياء التراث العلمي ومن جانبه أكد د. أحمد فؤاد باشا الأستاذ المتفرغ بعلوم القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية إن إحياء التراث العربى وخاصة العلمى أصبح ضرورة ملحة فى عصرنا الحالى لأنها تعتبر عملية إحياء للنصوص المغمورة والقوانين المنسية وتسهم فى تصحيح تاريخ العلم ونسبة الحقائق العلمية إلى مكتشفيها الحقيقيين. وأوضح أن مشروع التحقيق للنصوص لا يكتمل إلا بالترجمة ويمر بمراحل مختلفة إلى أن يصل إلى مرحلة يكون فيها كتابا مطبوعا أو مقالا منثورا نخاطب به بَعضُنَا، والفائدة تكتمل عندما ينتقل هذا الفكر إلى الآخر. وقال د. أحمد إن إشكاليات الترجمة عديدة منها تعرض المحتوى العلمى إلى عمليات «القرصنة» أى أن هناك قوانين أساسية فى العلم عندما ترجمت نسبت إلى غير أصحابها الحقيقيين، فمثلا قوانين الضوء تنسب إلى العالم نيوتن والحقيقة أن كل نظريات الضوء موجودة فى كتاب «المناظر» للحسن بن الهيثم، مشيرا فى هذا الصدد إلى احتفال الأممالمتحدة عام 2015 بالعام الدولى لعلم الضوء احتفالا بالألفية لكتاب الحسن بن الهيثم وتقديرا له فى تأسيس هذا العلم، ودعوتها للراحل «أحمد زويل» لإلقاء المحاضرة الافتتاحية فى هذا الاحتفال. وأضاف أن الترجمة العلمية تحتاج إلى مترجم جيد وملم باللغتين التى ينقل منها واليها، وأن يكون عارفا بالمصطلحات العلمية حتى يستطيع المقارنة بين النسخ ويختار الأصوب فى المتن لأننا نريد النص كما وضعه مؤلفه وفيه الصواب الذى يواكب العصر. مشيرا إلى أننا تأخرنا كثيرا عندما اكتشفنا أن أول من تحدث عن ظاهرة «الجاذبية» بأسلوب علمى سليم «الحسن بن أحمد الهمدانى» فى اليمن فى القرن الثالث الهجرى أى قبل نيوتن بعدة قرون. وطالب بضرورة تأسيس إتحاد وكيان عربى مادى يحوى كفاءات لرعاية حركة إحياء التراث العربى عامة والعلمى خاصة، ونشر الوعى بهذا التراث من خلال إدماجه فى مناهج وزارة التربية والتعليم للمساهمة فى تصحيح تاريخ العلم حتى لا نلوم أنفسنا أننا تركنا غيرنا يستأثرون بكتابة التاريخ عموما، والتاريخ العلمى بوجه خاص على حساب ما أنجزته حضارات أخرى رائدة وفِى مقدمتها الحضارة العربية الإسلامية. ومن ناحية أخرى قال د. محمود الشيخ أستاذ تحقيق النصوص الرومانسية فى فلورنسا أن هناك إشكاليات تواجه ترجمة النص التراثى العلمى منها ضرورة التوصل إلى النسخة العربية ثم اللاتينية ثم الرومانسية، وكذلك لابد من تحديد النص اللاتينى الذى ترجم من اللغة العربية وإذا كان من الممكن التوصل إلى المترجم وإلى فترة ومكان الترجمة لأنها تؤثر على الترجمة. وأضاف أنه لابد من مشاهدة النص الرومانسى كما حدث فى كتاب «أبى جراح» لأبى الفراس الذى ترجم إلى الأوكستانية ونشرته فى عام 1992, مشيرا إلى انه إذا كان النص استعمل لعمل موسوعة طبية واستخدم نصوص أخرى فلابد أن يكون المحقق على معرفة كاملة بهذه النصوص. وأوضح الشيخ أنه فى تحقيق «المنصورى فى الطب»لأبى بكر الرازى وجدت مفردات كثيرة غير موجودة بالنص العربي, وعملت 15 عاما أبحث عن هذه المفردات. وأكد الشيخ أن تحقيق النصوص المترجمة تخضع لقواعد صارمة ولابد أن يتبع المحقق المنهج العلمي, فدراسة المخطوطات لا تحقق ولكنها تدرس من المضمون والشكل.