قال المفكر الكبير الراحل عباس محمود العقاد: «إذا فاجأني الموت في وقت من الأوقات، فإننى أصافحه ولا أخافه، بقدر ما أخاف المرض، فالمرض ألم مذل لا يحتمل، لكن الموت ينهى كل شيء» فإذا قيل أن الثلاثين سن التحصيل، والأربعين سن جمع الثروة، فالذي يقال في الخمسين، إنها سن التصفية وعمل الحساب، ليعرف الإنسان نصيبه من الربح ونصيبه من الخسارة.. هكذا كان العقاد يري سن الخمسين حين بلغها، وبدأ فى الاستعداد للنهاية، لكن الله أطال في عمره، وبلغ سن الستين، فكتب مقالا بعنوان «وحى الستين» قال فيه إنه ليس من عادته إحياء ذكري الميلاد أو عيد الميلاد، لكنه وجد أن أصحابه الذين يعرفون تاريخ ميلاده كتب بعضهم في الصحف مهنئا بهذه المناسبة، وثارت في ذهنه أسئلة كثيرة تدور حول فكرة واحدة، هى أن الستين «نقطة تحول» يكون للإنسان بعدها شأن غير شأنه قبل بلوغها، ثم يعود في المقال نفسه ليقول «إن الستين لم تكن فى حياتى نقطة تحول بين عهدين، أو بين عمرين، ولكنني إذا نظرت إلي الفترة التي تمت بها الستون، والفترة التي تمت بها الخمسون مثلا، فهناك بعض الاختلاف بين الفترتين، ومثال ذلك أنني زادت قدرتي علي البحث والدراسة ونقصت قدرتي علي مواصلة الكتابة والقراءة، ولكني عوضت هذا النقص بازدياد المران علي الكتابة، وازدياد الخبرة بالتقاط أصعب الفوائد من أيسر القراءات، وزادت حماستي لما أعتقد من الآراء، ونقصت حدتي في المخاصمة عليها لقلة المبالاة بإقناع من لا يذعن للرأي والدليل، ولم تنقص رغبتي في طيبات الحياة ولكنني اكتسبت صبرا علي ترك ما لابد من تركه، وعلما بما يفيد من السعي في تحصيل المطالب وما لا يفيد، وارتفع عندي مقياس الجمال فما كان يعجبني قبل عشر سنين لا يعجبني الآن، فلست اشتهي منه أكثر مما أطيق، فكنت قبل عشرين سنة كما أنا الآن قليل الرجاء في خير بني الإنسان». وأطال الله عمر كاتبنا الكبير حتي كتب مقاله الشهير «وحي السبعين» قال فيه «نحمد من السبعين أنها تعطينا الرغبة علي قدر الطاقة، وأنها تعطينا الرغبة ومعها لجامها الصغير، ونحمد منها أنها تعودنا الاستغناء عما يلزم وما لا يلزم، فليس في السبعين من ضروري لا غني عنه حتي الحياة وحتي المجد وحتي الخلود، ولئن تمنيت شيئا بعد السبعين لأتمنين أن أعيش، فلا أعيش عبئا، ولا فضولا، وأن أعيش كما عشت بحمد الله علي الدوام، أحقابا وأحقابا إلي الأمام، فيقول الناس اليوم ما كنت أقوله قبل عشرات الأعوام، فذلك هو العمر الذى أحتسبه سلفا وأعيشه قبل حينه، فلا يكلفني انتظاره إلى الختام. فماذا لو عاش العقاد إلي الثمانين، هل كان سيكتب «وحى الثمانين» أم أن الشيخوخة كانت ستمنعه من ذلك؟.. هو نفسه أجاب حين سئل: وأين خرف الشيخوخة؟ بأن كثيرين قبله أجابوا «إن الذين حسبوا أن الخرف والشيخوخة حالتان متلازمتان، بقية من بقايا القرون الغابرة، لأن العلم الحديث يعلم أن خرف الشيخوخة من أمراض البنية، وليس بعرض من أعراض الإنسان والأعمار، فمن نجا من جراثيمه، نجا من أعراضه كما ينجو من الأمراض وكما ينجو من الجراثيم».. والحقيقة أن العقاد ظل لآخر لحظة في عمره يفكر ويكتب، ولم يقل له أحد حتي من معارضيه أنك «كبرت وخرفت»، التى يقولها كثيرون الآن لكبار مفكرينا، لمجرد أنهم اتخذوا موقفا سياسيا مختلفا عن موقفهم. د. محمد ابراهيم بسيونى