كامل الكيلانى رائد أدب الأطفال فى مصر وكل الدول العربية، ترجمت المئات من قصصه إلى مختلف اللغات العالمية.. وكان من حسن حظى أن تعرفت عليه عندما كنت طالبا بالجامعة وكان لى شرف أن أكون أحدث أعضاء مدرسته وفريق عمله فى كتب الأطفال عام 1955 وظلت علاقتنا عدة سنوات حتى انتقل إلى رحاب الله فى أكتوبر عام 1959بعد أن ترك ميراثا أدبيا شاملا جميع سنين الطفولة حتى الوصول إلى الجامعة، ولخص حياته ورسالته فى بيتين من الشعر ما زالا شاهدين على قبره: أنفع الناس وحتى أننى أحيا لأنفع أنفع الناس وما لى غير نفع الناس مطمع ولد «كامل كيلانى» فى العشرين من أكتوبر سنة 1897. والده الشيخ «كيلانى إبراهيم كيلانى» الذى يتصل نسبه بالشيخ «عبد القادر الكيلانى» (الجيلانى). ويروى الأديب الكبير عن نشأته. اسمى (كامل كيلانى إبراهيم كيلانى)، وأبى كان من أشهر ثلاثة مهندسين فى عصره، هم عز (بك)، وسيد متولى (بك)، والشيخ كيلانى (بك). وكنا نسكن فى القلعة فى حضن الجبل، وكانت لى مربية يونانية مثقفة جدا تعلمت منها فن الحَكْى، كانت تحكى لى أقاصيص عجيبة، ملأت كل خيالى. أستاذى هو الشيخ (أحمد أبو بكر)، وهو شاعر بربابة، يسترزق من حكايات (أبو زيد الهلالى). وقد حفظت قصائد الشاعر الصوفى (عبد الغنى النابلسى)، والشيخ (محمود الملاح)، و(الأسطى) و(محمد الشيخ) و(العربجى). وإبان نشأتى ذهبت إلى (الكتاب) مع ابن أختى. وبقيت فيه أربع ساعات فقط. وكانت سنى أيامها نحو ست سنوات. كنا جالسين، منا من يقرأ، أويحفظ، أويسمع لزملائه. ونحن فى انتظار قدوم الشيخ. وكنت أنا جالسا وحدى أتفرج بالعيال. وكان فى (الكتاب) عريف، كان يريد تعليق (يافطة) جديدة أهداها إليه أحد التلاميذ، وأمسك العريف بمسمار يدقه فى الحائط، ومال برأسه، فوقع نظره على دواة الحبر الكبيرة التى يملكها «سيدنا الشيخ» فأمسك بها فى يده ليدق المسمار، فانكسرت الدواة، وأغرق الحبر ملابسه. فقال العيال كلهم: (هييييه)! وقلتها معهم. ودخل الشيخ «عبد الباقى» على الضجيج، وفقد الأولاد النفس، وبدأ العريف فى مد الأولاد واحدا واحدا. وجاء علىَّ الدور!. وأصابنى الرعب من شدة ضرب العريف للأولاد!. وتوقفت يد العريف عن الضرب، واهتز سقف (الكتاب). ومال الحائط الذى نستند إليه، وتكهربت أرجلنا الصغيرة. ونحن نحاول أن نجرى، فلا نستطيع!. واعترضت طريقنا عربة (كارو) كبيرة فاندفعت فى وجه الحصان كتلة كبيرة من الحجر، فسقط الحصان غارقا فى دمه وامتلأت الدنيا بالغبار الأحمر، وأمطرت السماء حجارة ودخانا، وأصيب أكثرنا، فسقط يطلب الأمان بعيدا عن الموت والحيطان. وسقطت مئذنة المسجد الذى يجاورنا، وانكفأ النساء والشيوخ والأطفال على وجوههم، يصلون ويدعون الله أن يحسن الختام. وصفا الجو بعد أن توقف يوم القيامة عن الاستمرار، بعدها عرفنا السبب. رمى أحدهم (عقب) سيجارة فى مخزن البارود (بالمغاورى)، فانفجرا وكسر الجبل، وانحدر بأحجاره وغباره على حينا الملاصق للجبل.. ومازالت أكثر مساجد القاهرة محطمة المآذن من أيامها.. وكانت هذه الحادثة عام 1904، ونجوت من (علقة) العريف. وبعدها بسنتين أو ثلاث ذهبت إلى «الكتاب» ثانية، وكانت أمى تهددنى دائما بأن أبى سيضربنى. ولكن أبى لم يضربنى قط. وعشت كل طفولتى وصباى أنتظر (علقة) أبى بعد كل غلطة. تلك كانت نشأة كامل كيلانى كما رواها. ثم اتجه لحفظ القرآن الكريم فى (المكتب) وما إن نشأ «كامل كيلانى» وترعرع فدخل مدرسة أم عباس الابتدائية عام 1907م. ونال شهادة (البكالوريا). وقد عكف على دراسة الأدب الإنجليزى، وحفظ الشعر، إذ كان شغوفا بالأدب إبان نشأته وصباه. ثم تعلم الفرنسية، وانتسب إلى الجامعة المصرية القديمة من عام 1917م حتى عام 1930م. وكان متفوقا فى دراسته، و(زميلا) لطائفة من رجال الأدب، من بينهم.. المرحومان الدكتوران: زكى مبارك، وعبد الوهاب عزام. والدكاترة: عبد الحميد العبادى، وحسن إبراهيم حسن، وفريد رفاعى. وبعد أن تخرج اشتغل مدرسا فى المدرسة التحضيرية إذ كان معلما للإنجليزية والترجمة، وكان مجيدا للفرنسية، والإنجليزية، وعارفا بمبادئ اللغة الإيطالية. وفى سنة 1920م نقل مدرسا فى مدرسة الأقباط الثانوية بدمنهور، وفى سنة 1922م وظف فى وزارة الأوقاف، وظل فيها حتى يناير سنة 1954م. وكان آخر مناصبه بالوزارة، منصب سكرتير مجلس الأوقاف الأعلى. وقد عمل (كامل كيلانى) بالصحافة والفن خلال تلك المدة فاشتغل رئيسا لنادى التمثيل الحديث سنة 1918م، ورئيسا لتحرير جريدة الرجاء عام 1922م، ثم سكرتيرا لرابطة الأدب العربى من عام 1929م حتى عام 1932م. قال عن نفسه مرة :ما ضاع من عمرى شىء قط «كدت أعمل حتى فى يوم المرض: أفكر، وأتأمل، وأرسم خطط العمل». وكان من رأيه أن المعركة بين أديبين من شأنها أن تجعل الأدب يفقد اثنين من رجاله، ولذلك كان يؤثر الصمت حين يهاجمه أحد النقاد، وبهذا الصنيع يخسر الأدب رجلا واحدا. فكان شعاره، هو: أن يعمل، ويعمل دائما. ويتابع الأستاذ الكيلانى سلسلة الحديث عن نفسه، بالنسبة لتعلقه بالأساطير وشغفه بها، فيقول: «إن الأسطورة دعامة حياتى». ويرجع هذا إلى أنه ولد فى أحضان جبل المقطم..، وكان الابن الرابع عشر لأمه، ولم يظفر بالحياة غيره، فنشأ فى جو صحراوى سحرى، يعبق بالأساطير والأغانى، فألف منذ طفولته العزلة الباكرة، وفلسفته فى هذا أنه لا يرتبط مع العالم إلا فى الضرورة القصوى وقد كان هذا مما أتاح له أن يقرأ ويستوعب ويحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من عيون الشعر العربى. هذا بخلاف الروائع الأدبية والحكم والأمثال وحصيلة غير محدودة من الفكاهات والأقاصيص. وكامل كيلانى كان طبعه المحايدة فلم يتعصب لأديب بعينه.. ولم يكن يفضل أدبا على أدب، ولا كاتبا على كاتب آخر، ولا قصيدة على قصيدة أخرى. إذ أن: (آية الجمال أنك تعيش مع كل عظيم، فتراه أشبه بالحسناء التى تنسيك الحسان). عاش «كامل كيلانى» اثنين وستين عاما وأشهرا، حافلة بالعلم والمعرفة. وكانت وفاته مساء يوم الجمعة 9 من أكتوبر سنة 1959م. وشيعت جنازته إلى المقر الأخير صبيحة يوم السبت 10 من أكتوبر سنة 1959م، رحم الله الأديب كامل كيلانى وأكرم مثواه، جزاء ما قدم من علم وعرفان.