العلاقة الجدلية بين المال والسعادة أو الراحة مستمرة ربما منذ ظهور النقود قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، فكثيرون يؤمنون بأن المال أهم وسائل تحقيق أمانى الإنسان، ومن بينها السعادة والأمان بالطبع، وفى المقابل هناك عدد لا بأس به يعتبر أن الهوس بالمال يحول الإنسان إلى عبد له وبالتالى يصبح المال نقمة على ذلك الشخص وعلى من حوله بعكس ما يعتقد الفريق الأول. ...................................... تلك الجدلية كانت الخط الدرامى لأحدث أفلام المخرج الإنجليزى العجوز السير ريدلى سكوت (80 عاما) الحائز قبل أيام على زمالة مهرجان «بافتا» السينمائى البريطانى وهى أرفع درجة يقدمها المهرجان وسبقه إليها بعض عظماء الإخراج مثل سبيلبيرج وسكورسيزى وهيتكشوك. الفيلم المأخوذ عن كتاب «ثراء مؤلم» للكاتب جون بييرسون الذى صدر عام 1995، ويروى قصة حقيقية عن الملياردير البريطانى الراحل بول جيتى ملك النفط وأغنى شخص فى العالم فى حقبتى الستينيات والسبعينيات حيث قامت إحدى عصابات المافيا الإيطالية باختطاف حفيده الأقرب إليه جون جيتى وطلبوا فدية 17 مليون دولار للإفراج عنه. الصراع الرئيسى فى الفيلم بين الجد فاحش الثراء (أدى دوره كريستوفر بلومر) الذى يمثل بالطبع فريق الحريصين على المال، وبين طليقة ابنه جايل «ميشيل وليامز» التى تمثل الفريق المغاير أو يمكن أن نقول فرق القيم الإنسانية، حيث يرفض الجد دفع الفدية نهائيا ويقلل من أهمية الحفاظ على اختطاف حفيده حتى لو أدى الأمر إلى موته، بينما تقاوم الأم جشع الجد ونهمه للمال على حساب حياة حفيده. خيط مهم فى ذلك الصراع بين الجد والأم أو الشر والخير كما نجح ريدلى سكوت فى ترسيخ ذلك المعنى لدى مشاهدى الفيلم، يتجسد فى مشهد «فلاش باك» جمع الطرفين مع زوج جايل «نجل الملياردير» وهو مشهد الاتفاق على تسوية الطلاق التى تصدى لها الجد ومحاموه لمنع الأم من ابتلاع ثروته كما يعتقد من خلال التسوية، بينما تفاجئهم جايل بتسوية لم يتوقعها الملياردير النهم وهى تنازلها عن أى مستحقات مالية مقابل توقيعه على حقها فى حضانة أولادها، عبر حوار يجسد فيه المخرج والسيناريست ديفيد سكاربا المقابلة بين من يعبد المال ومن تقدس قيم الحياة والإنسانية. عودة للأحداث حيث يرفض الجد كما ذكرت محاولات الأم وتوسلاتها لدفع الفدية حتى يصل به الأمر للتهرب من مقابلتها حينما سعت وراءه فى القصور والضياع التى يملكها فى إيطاليا وبريطانيا بخلاف ما يملكه فى أمريكا التى يقيم ويستثمر فيها بالأساس. ومع إلحاح الأم المتواصل يكلف الجد فليتشر «مايكل والبيرج» وهو رجل يعمل لديه فى مجال الأمن للسفر مع الأم إلى ايطاليا ومحاولة تحرير الحفيد دون دفع الفدية، لكن محاولات فليتشر تتحطم على صخرة تمسك العصابة بمبلغ الفدية الذى يعرفون قدرة الجد على دفعه بسهولة، ومن ناحية أخرى برفض الملياردير العنيف لدفع أى مبالغ، ليظل الولد مخطوفا والموقف معلقا لعدة شهور. على الجانب الآخر يستعرض الفيلم من خلال بضعة مشاهد العصابة الخاطفة والمكان الذى اقتادت إليه الحفيد الذى يعيش حالة رعب مستمرة من خاطفيه رغم بلاهتهم التى صورها المخرج، ومن أن يرى وجه أحدهم لأن ذلك كما قالوا سيدفعهم لقتله، لكنه يرى وجه ساجنيه الذى يدعى سينكوانتا»رومين دوريس» وتنشأ بينهما علاقة إنسانية غير محددة المعالم. فالسجان يتعاطف مع المخطوف لدرجة أنه يقتل زميلا له خارج «وكر العصابة» قبل أن يقوم الأخير بقتل الحفيد لأنه رأى وجهه، لكن فى نفس الوقت لا يدفعه تعاطفه لإعادة الصبى المراهق لأهله، خصوصا بعد أن لمس إصرار جده الثرى على عدم الدفع ومن ثم عرف «بالحس الإجرامى» على الأقل أن حياة الولد نفسها باتت على المحك، وإنما كل ما يفعله هو الهرب به إلى عصابة أخرى. الغريب أن نفس السجان الذى يظهر الفيلم إنه لا يعامل باحترام كاف من زعيم العصابة الجديدة يكاد يتوسل لأم الحفيد وفليتشر اللذين يتواصل معهما من وقت لآخر من أجل دفع الفدية وإنقاذ حياة الولد، ثم يلاحظ هروب الحفيد من سجنه الجديد فيتجاوز عن ذلك بل يسعى لإشغال بقية أفراد العصابة لمنح جون جيتى مساحة زمنية ومكانية للهرب. وفى مشهد ثالث نرى سينكوانتا وقلبه يكاد يتقطع عندما قرر زعيم العصابة قطع أذن الحفيد وإرسالها إلى الجد الملياردير لإثبات جدية تهديداته، حيث نرى السجان يربت على كتفه ويضع رأسه على ركبتيه، بينما الطبيب الشرير يقوم بقطع أذنه، ليبقى السؤال يدور فى أذهان المشاهدين طول أحداث الفيلم التى تزيد على ساعتين وهو لماذا لم يحاول السجان تهريب الحفيد، ويمكنه لاحقا الاستفادة من صداقته فى الالتحاق بعمل جيد أو كسب بعض النقود؟! تستمر الأمور دون تقدم حتى بعد إرسال أذن الحفيد بالبريد لأكبر صحيفة إيطالية، ورغم مساعى الأم لتدبير مبلغ الفدية الذى نزل فى موسم التخفيضات العصابية إلى 4 ملايين دولار فقط، ومن بين هذه المحاولات مشهد جمع بينها وبين الجد عرض فيه الأخير دفع الفدية، لكن قبل أن تكتمل فرحة الأم اكتشفت أنه سيدفعها كسلفة لها مقابل أن تتنازل رسميا عن حقها فى حضانة أولادها التى يصور المخرج أن الجد الثرى اعتبرها خسارة له ومكسبا، للأم وهو الذى لم يعتد خسارة أى تفاوض، ثم تكتمل المأساة حيت تكتشف الأم وفليتشر بعد عودتهما إلى روما لاستلام المبلغ ودفعه للعصابة أن الجد لم يحول سوى مليون دولار فقط لأن ذلك هو الحد الأقصى الذى يمكن اقتطاعه من الضرائب المستحقة عليه. المخرج ريدلى سكوت بالغ جدا فى تصوير دناءة الملياردير وتخليه عن أى مشاعر إنسانية وذلك فى أكثر من مشهد، منها مشهد استقباله لابنه وأسرته جايل وأولادها لأول مرة بعد سنوات طويلة من انقطاع علاقته بابنه، حيث تفاجأ الأسرة بأن أغنى رجل فى العالم يغسل ملابسه بنفسه ويعلقها على منشر بدائى فى غرفته بالفندق الفخم الذى ينزل به وهو ما يبرره بقوله «لماذا أدفع 10 دولارات لغسل ملابسى الداخلية وقمصانى فى مغسلة الفندق بينما يمكن أن أصل للنتيجة نفسها مقابل 20 سنتا فقط»! فى مشهد ثان نرى الجد يتفاوض مع أحدهم على دفع مبلغ 7 ملايين دولار، وبينما يترك المخرج المشاهدين يظنون أنه يتفاوض مع مختطفى حفيده، نكتشف فى نهاية المشهد أنه يدفع هذه الملايين لشراء لوحة زيتية نادرة، فى نفس الوقت الذى يتقاعس فيه عن دفع الفدية لإنقاذ حياة الحفيد. مشهد ثالث يجمع فيه ريدلى سكوت كل كراهيته للملياردير البخيل عندما طلب من حفيده فى أحد مشاهد «الفلاش باك» قراءة رسائل المعجبين التى تصله كتابة الرد عليها، فنراه يرد على رسالة سيدة أمريكية تطلب منه مساعدة لعلاج زوجها المريض بأنه لو لبى كل طلبات المساعدة التى يتلقاها لكان الآن يتسول نفقات حياته مثلها. ينتهى الفيلم بموافقة مفاجئة من الجد على دفع مبلغ الفدية لكن خلال اتفاق جايل مع العصابة على موعد ومكان التسليم والتسلم يهرب جون جيتى الحفيد من سجانيه كما أوضحت، لكنه يتخبط بين الطرق والمنازل المغلقة فى الوقت الذى تطارده فيه العصابة، وقبل أن يعثروا عليه يلتقى بأمه وفليتشر اللذين كانا يبحثان عنه بدورهما، ويتكفل سينكوانتا أخيرا بقتل زميله العصابى فى تلك اللحظة، بينما كان يحاول قتل الولد وأمه. يموت الجد وتؤول ثروته بالكامل لأولاد جايل، ولأن طليقها نجل الملياردير مدمن مخدرات وغير أهل للتصرف فى الثروة، تكون الأم هى الوصية على ثروة أولادها، وقبل نزول تتر النهاية يوضح الفيلم «كتابة» أن جايل تبرعت بأغلب الثروة لأعمال الخير كما باعت كثيرا من المقتنيات الفنية الثمينة للجد البخيل وأبقت على أندرها وأثمنها لتعرض فى متحف يحمل اسم «جيتى» وهو لا يزال موجودا حتى الآن. بشكل عام الفيلم جيد الصنعة وهو أمر ليس غريبا على المخرج الذى رشح أكثر من مرة لجوائز الأوسكار والجولدن جلوب وبافتا وكان وغيرها من المهرجانات العالمية المرموقة عن أفلام مثل «المصارع» و «روبن هود» للنجم راسل كرو و» سقوط الصقر الأسود» وغيرها، كما أن الفيلم نفسه رشح لثلاث جوائز جولدن جلوب لأحسن إخراج وأحسن ممثل مساعد «كريستوفر بلومر» وأحسن ممثلة «ميشيل وليامز». لكننى أرى أن هناك بعض التفاصيل الصغيرة هربت من المخرج والسيناريست على حد سواء، منها مثلا أحد المشاهد يرد فيها الجد على سؤال لمراسل تليفزيونى عما ينوى فعله للإفراج عن حفيده بأن لديه 14 حفيدا ولو دفع فدية لكل واحد يخطف فهذا كفيل بإفلاسه، بينما لم يعرض الفيلم أبدا أن لدى الرجل أبناء ولا أحفاد سوى جيتى الابن طليق جايل وأولادهما الثلاثة، وهو نفس ما ظهر فى نهاية الفيلم حين آلت الثروة الضخمة لجايل باعتبارها الوصية على الورثة الوحيدين للجد. كذلك فإن الفيلم فى مدة اعتقادى مبالغ فيها لدرجة تدفع المشاهد للشعور بالملل فى كثير من المشاهد التى أقحمت دون مبرر لوجودها داخل السياق الدرامى مثل مشهد تفاوض فليتشر قبل تكليفه بملف الحفيد المخطوف مع رجل من المملكة العربية السعودية حيث كان يدير جيتى الجد أعماله فى التنقيب عن النفط هناك، ناهيك عن التطويل المثير للملل فى مشهد الخاطفين والمفاوضات التى لا تنتهى لأى نتيجة. الطريف أن بلومر الذى أدى دور الجد البخيل باقتدار استحق معه ترشيحه لجائزة الجولدن جلوب لم يكن هو المرشح الأصلى لتجسيد الشخصية وإنما كيفين سبايسى الذى كان قد انتهى بالفعل من تصوير الفيلم بالكامل قبل أن يتكشف تورطه فى فضائح جنسية قبل فترة بسيطة من موعد عرض الفيلم، ما دفع المخرج لاستبداله ببلومر، وإعادة تصوير كل مشاهده مجددا، وهو أمر يحسب للمخرج كونه أعاد تصوير المشاهد التى تمثل أكثر من نصف الفيلم بحرفية مذهلة لا يشعر معها المشاهد بأى افتعال أو ارتباك، لدرجة لا تشعر معها بالتغيير الذى حدث إلا من خلال ما كتبته الصحف عن الموضوع.