من أخطر المشكلات التي تواجه المجتمع المصري بعد ثورة25 يناير بزوغ نزعات لخداع الذات وإنكار الواقع. وهذه النزعات تشيع للأسف ليس بين الجماهير فقط, ولكن أيضا وهذا هو موضع العجب بين النخب السياسية من المثقفين الذين يفترض فيهم القدرة علي الإدراك العميق للمواقف المختلفة, والفهم الدقيق للمراوغات التي تقوم بها بعض التيارات السياسية, دفاعا عن مواقفها الباطلة أو تبريرا لانحرافاتها السلوكية. وقد قررت أن أعالج هذا الموضوع المهم بعد أن قرأت بتمعن تعليقات قرائي الكرام علي مقالي الماضي والذي نشر بعنوان فوضي خلاقة أم انهيار اجتماعي. وقد حاولت فيه بناء علي مؤشرات كمية تتعلق بالعدد اللا متناهي من المظاهرات والاحتجاجات الفئوية من قبل كل فئات المجتمع عمالا وموظفين ومواطنين عاديين, وعلي مؤشرات كيفية تحاول تحليل طبيعة الظاهرة, أن أثبت أن المجتمع علي شفا الانهيار الاجتماعي الشامل, وهذا الانهيار يتعلق أولا بسقوط منظومة القيم الأساسية الحاكمة التي كانت تصدر عنها كل مؤسسة من مؤسسات الدولة, بالإضافة إلي الإنفلات السلوكي الذي أصاب قطاعات واسعة من المواطنين بتأثير شعارات غوغائية أبرزها مفيش حد أحسن من حد, وضرورة تحقيق المساواة في الرواتب والحوافز بين الجميع بغض النظر عن فروق التعليم والتأهيل والخبرة. وقد ضربنا أمثلة متعددة علي هذه المطالبات الفئوية اللا معقولة والتي طالبت فيها بعض المظاهرات في سوهاج مثلا بأن يتساوي الموظفون الإداريون في جامعتها مع أساتذة الجامعات التي ارتفعت مرتباتهم, ولذلك قطعوا الطريق احتجاجا. أو مطالبة موظفي الشهر العقاري بعد إغلاقهم المكاتب الحكومية بالجنازير- بأن يتساووا مع الخبراء! ومعني شيوع هذا السلوك الفوضوي والذي يؤدي أحيانا إلي قطع الطرق- وهذه جريمة بالغة الخطورة في حد ذاتها- إلي تداعي مؤسسات الدولة المختلفة, وعجزها عن أداء وظائفها الطبيعية, بما يساعد الناس علي قضاء مصالحهم. وإذا أضفنا إلي ذلك إغلاق المصانع احتجاجا, ومنع العمال الرافضين من العمل ودخولها, أليس في كل ذلك مؤشرات مؤكدة عن الانهيار الاجتماعي؟ ولو حاولنا أن نحلل سلوك بعض الائتلافات الثورية في مجال الاحتجاج علي تقصير المحافظين والقيادات المحلية عن بذل الجهد الكافي لحل مشكلة القمامة وانقطاع المياه والكهرباء, والذي تمثل في أن شباب الثوار قرروا وضع أكياس القمامة أمام بوابة محافظة الجيزة احتجاجا! وفي اجتهاد آخر جاءنا خبر من الإسكندرية أن بعض شباب الثوار قرروا نقل القمامة ووضعها أمام أبواب القصور الرئاسية! أليس في هذا السلوك تأكيد علي الانهيار الاجتماعي الشامل؟ لكل ذلك تعجبت للغاية من تعليق لأحد قرائي الكرام علي مقالي السابق, والذي وجه لي فيه نقدا عنيفا في سياق إنكاره لكل ما سقته من أدلة وشواهد علي الانهيار الاجتماعي. والتعليق للسيد ناصر الحوفي, وأنا أورده بنصه وعنوانه الذي أدهشني حقا وجعلني أفكر في ظاهرة خداع الذات هو ما يحدث في مصر هو أروع ما يكون! يقول القارئ الكريم السيد الفاضل السيد يسين لأنك تربيت في ظل نظم سلطوية فمازال تفكيرك سلطويا تخاف من الاعتراض والاحتجاج وتميل إلي الإدانة الفورية والمحاكم الاستثنائية وكنت أظنك تميل للتحليل الاجتماعي- كما تدعي- والعلاج المتأني ورفع الوعي والصبر علي ردود الأفعال علي واقع شديد المرارة تم ترسيخه عمدا عبر ستة عقود. أين دور الإعلام والمثقفين أين دور الباحثين أين العلاج وأين الصبر, فالقوانين وحدها لا تصنع نظاما ناجحا ولا دولة قوية. يا سيدي إن مصر أصبحت الآن أقوي من السابق, وإن كان هناك من يطلبون بعدم وعي فهناك أضعاف أضعافهم من يحبون هذا البلد... ويعرفون أين صالحه ومستعدون للتحرك وقت اللزوم( انتهي نص التعليق). وقد لفت نظري بشدة أن القارئ الكريم لا يعرف أي شئ عن خلفية الكاتب الذي يوجه له هذا النقد اللاذع. فأنا تربيت أساسا في ظل النظام الليبرالي قبل ثورة يوليو1952, وتشبعت بالقيم الليبرالية, ونعمت بإبداع المفكرين المصريين ممن ينتمون إلي اليمين واليسار معا. قرأنا سيد قطب في كتابه الرائع العدالة الاجتماعية في الإسلام وهي رؤية- اعتبرناها نحن في هذا الوقت- يسارية تنتصر لجماهير الشعب في مواجهة القلة المترفة, كما قرأنا للمفكر خالد محمد خالد كتابه الشهير من هنا نبدأ, والذي كان رائدا في مجال ما أطلق عليه من بعد الإسلام الليبرالي, والذي يذهب إلي أنه ليس هناك تناقض بين الإسلام والديمقراطية. وحين قامت ثورة يوليو1952 آمنا بقيمها وأهمها تحقيق العدالة الاجتماعية, وهذا كان مشروع الثورة الأساسي والذي في ضوئه تم فك الحصار عن الطبقة الوسطي, وتحققت مجانية التعليم, وأصبح أبناء هذه الطبقة والطبقات الفقيرة أساتذة في الجامعات ومديرين ومهندسين في شركات القطاع العام. نعم كان النظام السياسي لثورة يوليو سلطويا, ولكنه كان نظاما يعمل لصالح جماهير الشعب, واستطاع إلي حد كبير أن يحقق المساواة والكرامة وينقذ مشروع العدالة الاجتماعية, وإن كان قد قصر في تحقيق الديمقراطية. وأدهشني أن ينتقدني القارئ الكريم لأنني لا أمارس التحليل الاجتماعي كما أدعي( حسب قوله) وأساله وماذا أفعل منذ ثورة25 يناير حتي الآن, وألا أمارس التحليل الاجتماعي النقدي لأي طرف من أطراف المعادلة السياسية في مصر الآن؟ وألم أفعل ذلك قبل ثورة25 يناير في مجال تحليلي الاجتماعي النقدي العنيف للنظام السابق أيام مبارك؟ ويشهد علي ذلك كتابي ما قبل الثورة مصر بين الأزمة والنهضة: نقد اجتماعي ورؤي مستقبلية( نهضة مصر,2011). وقد جمعت فيه مقالاتي النقدية للنظام السابق والتي نشرت في صحيفة قومية هي الأهرام المسائي منذ عام2009 حتي عام.2011 ومعني ذلك أننا كمثقفين وإعلاميين قمنا قبل الثورة بممارسة النقد الاجتماعي المسئول, وتعقبنا بالتحليل كل صور الانحراف السياسي. وفي ضوء ذلك كله لا أستطيع أن أقبل مزاعم القارئ الكريم من أن ما يحدث في مصر من أروع ما يكون! أين هي الروعة في إغلاق المصانع وقطع الطرق, وتعطيل السكة الحديد, والتجاوزات الغوغائية في مجال السلوك الإداري والسلوك الاجتماعي؟ أليس ذلك خداعا فاضحا للذات, وإنكارا جرئيا للواقع المؤلم الذي نعيش فيه؟ نريد مواجهة الواقع ليس بالقانون فقط كما قال القارئ, ولكن من خلال إعادة تربية الجماهير علي قواعد السلوك السياسي والاجتماعي القويم, وتنشئة النخبة من جديد علي قواعد النزاهة والموضوعية والعمل لا للصالح الشخصي ولكن للمصلحة العليا لمصر. المزيد من مقالات السيد يسين