فى رمضان 1973 كنا أطفالاً صغاراً نلعب فى حارات وشوارع الجمالية بحى الحسين الذى تربينا فيه.. كنا نخرج بعد الإفطار بالفوانيس المعدنية التى تنيرها من خلف زجاجها الملون شمعة متوهجة.. كنا نجرى بها وكأننا فراشات تلعق الروائح الطيبة, فى بستان واسع لايعرف فقراً ولاعطشاً ولا ضيق ذات يد. كانت الحياة سهلة, بسيطة.. بين الناس علاقات دافئة الكل يحب الكل.. الجار يحاسب على جاره, ولايطيق أبداً أن يبات ليلته وهو على خلاف معه.. عندما يرتفع صوت الشيخ محمد رفعت فى الراديو بآذان المغرب ترى تابلوهاً رائعاً من الرضى بالنفس ومن كل من حولك.. تشعر أن رضى الله قد تمكن من كل أجواءك وعقول وقلوب كل المحيطين بك.. تسمع مسلسل الإذاعة من العبقرى الضاحك الباكى فؤاد المهندس, وأنت مرتاح البال.. تكاد تبكى من كثرة الضحك الصافى من داخل القلب, وعلى إذاعة واحدة تجتمع كل البيوت المصرية, من أقصاها إلى أدناها فلا هناك تليفزيونات منتشرة ولافضائيات تحمل فوق رأسك هم عشرات المسلسلات والبرامج التى تضيع الوقت والعقل وربما الصيام ذاته! وسط كل هذا كانت هناك غُصة فى نفس كل مصرى, لم ينسها مصرى واحد وهى أن العدو الإسرائيلى الصهيونى قد إحتل أرضاً لنا منذ سنوات ستة, وأنه لازال يرتع فيها ويخرج لنا لسانه بوقاحة, ويعبث بها وبنا. رغم هذه الغصُة وتلك الهزيمة رأينا ونحن أطفال "الكبار" أمامنا وهم لم يفقدوا إيمانهم بالله بأن الإنكسار سيزول وأن الروح ستعود بعودة الأرض ليس فقط إقتناعاً بقدرات جنودنا على ذلك ولكن لأن الجميع - من كان فى ميدان معركة والإستنزاف وخارجه - عنده إصرار لايتزحزح عن هذا. رأينا كل هؤلاء وهذا المناخ ونحن نحبو على صوت أم كلثوم وعبد الحليم التى وحدت بين الجميع وبثت روح القوة والقدرة على تجاوز المحنة, وأن مصر لن تموت, ولن تسقط, ولن تستسلم. وبالفعل كان هناك رجالاً صدقوا ماعاهدوا الله عليه فكانت حرب العاشر من رمضان السادس من اكتوبر .. فى ذلك الوقت كنا نلعب أمام "سيدى الجمل" لعبة "السبع طوبات" عندما سمعنا أصواتاً تهلل صائحة "الله أكبر ..عبرنا القناة", وجدنا الدموع وهى تنساب من عيون كل من حولنا من الفرحة, سمعنا الزغاريد رغم وقار الشهر الكريم تنطلق فوق شفاه أمهاتنا وجاراتنا.. الرجال أحتضنوا بعضهم البعض, وبعض من كنا نعرف عنهم "الشقاوة والفتونة" كانوا أول من "بل الشربات " ووزعوه فى المنطقة .. شعرنا فى هذه اللقطة وكأننا فى المدينة الفاضلة التى يعيش فيها الإنسان كما خلقه الله لايعرف سوى مشاعر الطُهروالنقاء.. رأينا ونحن نسمع وردة تشجى "على الربابة بغنى" وحليم يردد "خللى السلاح صاحى" مصر الحقيقية التى يعرف من يعيش فوقها أن الله لن يخيبها أبداً لأنها محفوظة بإرادته هو وأنها ستنتصر على كل أحزانها لامحالة. شربنا من هؤلاء الكبار الذى عشنا ونحن بينهم أنهار الكرامة والعزة الممزوجة بالرحمة والعفو والسماحة, تعلمنا منهم إحترام الكبير والرحمة بالصغير, وأنك لاتعيش وحدك وأن "نفسك" ليست كل شئ .. معهم عرفنا ونحن أطفال حرب العاشر من رمضان معنى أن تكون فقير المال لكنك أغنى الناس بأدبك وعملك وإحترامك لذاتك وللآخرين .. شهدنا جنودنا وضباطنا يعبرون ويستشهدون دون أن يزايد أحد من أهلهم على إستشهادهم ..! رأينا دم المسلم والمسيحى يروى أرض سيناء دون تفرقة ولاتمييز فداءاً للوطن ولادفع جزية !! عرفنا أن "عسكر" مصر هم خير جنود الأرض وأنهم أشرف من خلق الله فى مواجهة الصهاينة دون شعارات ولابيع للقضية لحساب آخرين عرفنا كل هذا ونحن أطفال أكتوبر – العاشر من رمضان – فماذا يرى أطفال اليوم منا.. وماذا نعلمهم فى زمن الثوار ؟! المزيد من مقالات حسين الزناتى