الكثير منا يردد عبارة: إن الطفل المصري من أذكي أطفال العالم قبل أن يتم السنوات الخمس من عمره, ثم يتدهور مستوي ذكائه من خلال أسلوب التعليم التلقيني الفاشل في مدارسنا الحكومية بعد ذلك, وبغض النظر عن عدم وجود مصادر أو دراسات علمية مقارنة تثبت صحة هذه المقولة, فإننا نتساءل: هل الذكاء بفرض وجوده بهذا المعدل العالي يكفي لأن يخرج من بين هؤلاء الأطفال عباقرة ومخترعون ومبدعون؟ أم أن هناك عوامل أخري ربما لو توافرت للشخص الأقل ذكاء لكان أكثر انتاجا وإبداعا من غيره صاحب المعدل الأعلي من الذكاء؟ ربما كان هذا الكلام من الأهمية لأن يقال الآن مع قدوم وزير جديد للتعليم وهو الوزير د. أحمد زكي بدر الذي يبدو أن لديه نية واضحة لإصلاح منظومة التعليم المتدهورة في مصر, والتي لا يمكن ان تخرج مبدعين ينتفع بهم هذا الوطن. ولكي نفهم كيف يمكن للشخص الذكي أن يكون مبدعا ينبغي أن نعلم أن الكثيرين من علماء الطب النفسي يعتقدون أن من لديه معامل ذكاءIQ عاليا( أكثر من140) يعد من العباقرة, ولأن هذه النسبة لا توجد سوي في4 في الألف من البشر, فقد أطلقوا عليهم اسم: فئة العباقرة, وظل هذا الاعتقاد سائدا حتي أتي العالم السويسري لويس تيرمان من جامعة ستانفورد, وأجري بحثا أثبت من خلاله أن جوهر العبقرية لا يتوقف علي إحراز أعلي الدرجات في الامتحانات الدراسية, أو إحراز نسبة عالية في اختبارات معامل الذكاء العقلي بصورة غير عادية, لذا فقد نادي العالم النفسي جالفورد بضرورة التركيز العلمي علي الإبداع, وخلص علماء النفس إلي أن الإبداع شيء مختلف عن الذكاء, فالفرد يمكن أن يكون مبدعا بدرجة تفوق كثيرا مستوي ذكائه, أو العكس, أي أن المرء يمكن أن يكون لديه معامل ذكاء عقلي كبير, إلا أنه لا تبدو عليه أي من علامات العبقرية أو الإبداع. وعندما سئل اينشتاين ذات مرة عن الفرق بينه وبين الإنسان العادي قال: الإنسان العادي إذا طلبت منه أن يبحث عن إبرة في كومة قش, فإنه بمجرد أن يعثر علي الإبرة, فسوف يتوقف عن البحث فورا, أما أنا فسوف أستمر في التنقيب في كومة القش بحثا عن احتمال وجود إبر أخري, وهكذا يتبين لنا أحد الفروق المهمة بين الفكر العادي والفكر المبدع العبقري, وهو أن المبدع لا يفكر بشكل روتيني أو تكراري من خلال استعادته لخبرات سابقة في مشكلات مماثلة, ولا يميل إلي الأخذ بالمسلمات, ويبتكر الحلول غير المتوقعة أو التقليدية للمشكلات, و يبحث عن أكثر من بديل للحل, ويتعامل مع كل هذه البدائل علي قدم المساواة, كما أن المبدع يميل دائما إلي الفكر المنتج. والحقيقة أنه ينبغي علينا أن نتبني تدريس هذا الفكر المنتج في مؤسساتنا التعليمية, بدلا من التفكير التقليدي التكراري أو التلقيني, الذي لا يولد سوي الجمود الفكري والتخلف, فليس من الضروري ان يكون لدي الطالب حلول سابقة التجهيز يستدعيها لكي يحل المشكلات, ولكن واجبنا أن نعلمه أسلوبا للتفكير بشكل مبتكر وجرئ, ربما يكون مخالفا للحل الذي نراه نحن هو الأمثل, فبدلا من أن نلقنه الحل ينبغي أن نعلمه كيف يبتكر هو الحل, وقد سعدت بإلغاء ما يسمي بالإجابات النموذجية في امتحانات الثانوية العامة, ولكن ما يؤرقني هو عدم قدرة المصححين علي تقييم الفكر المبدع للطلاب لأنهم هم أنفسهم نهلوا من هذا التعليم التلقيني, ومعظمهم يحتاج إلي إعادة تأهيل وتقويم. ويكمن سر عبقرية المبدعين في أنهم يعرفون كيف يفكرون, وربما كان أفضل وأروع ما يمكن أن يفعله الأستاذ في أي فرع من فروع المعرفة, هو أن يعلم تلاميذه كيف يفكرون, من خلال تعليمهم أساليب واستراتيجيات تفكير مختلفة, ولقد لخص مايكل ميكالكو الفرق بين العباقرة والآخرين من الأشخاص العاديين في كتابه: كيف تصبح مفكرا مبدعا, في نقطتين أساسيتين هما: إن العباقرة والمبدعين لديهم: أولا: القدرة علي رؤية ما لا يراه الآخرون, ثانيا: التفكير فيما لا يفكر فيه الآخرون. ونحن عندما تراودنا فكرة نعتقد أنها ناجحة أو مجدية, نتمسك بها, ويصعب علينا أن نفكر في افكار بديلة غيرها قد تكون أكثر منها نجاحا, ونظل علي هذا الفكر إلي أن يثبت خطؤها, أما العباقرة والمبدعون فلديهم كم ثري ومتنوع من البدائل, والتصورات, والأفكار الحدسية, التي يقوم العقل بالاحتفاظ بأفضلها من أجل إجراء المزيد من التطوير لها, وهذا التنويع في الأفكار ينبغي أن يكون أعمي ليكون فاعلا بحق, ومعني كلمة أعمي هنا هو النظر إلي كل الأفكار المتنوعة والبديلة دون الميل لتفضيل أي منها علي الأخري من خلال المعرفة والخبرات التكرارية المختزنة من قبل. وهذه التنويعات العمياء هي التي تقود إلي كل ما هو مبتكر وجديد وهو ما يطلقون عليه أحيانا: الفوضي الخلاقة, ومما لاشك فيه أن هناك دخلا لعامل الوراثة والجينات, إلا أن الجينات الوراثية مهما كان ما تحمله من عوامل الذكاء عندما تفتقر إلي التنوع لا يستطيع أصحابها التكيف مع الظروف المتغيرة, وفي هذه الحالة يتحول الذكاء والحكمة المشفرة جينيا إلي حماقة, نتيجة لعدم إتاحة الفرصة لتنويع الأفكار, فتصبح افكارنا المعتادة راكدة, وتفقد مزاياها علي الرغم من وجود العناصر التي لو أحسن استغلالها, فإنها تؤدي إلي النجاح والتفوق.ولنتناول بشيء من التفصيل الخصائص التي يتمتع بها العباقرة والمبدعون, والتي جعلتهم مختلفين عن الأشخاص العاديين: أولا: رؤية ما لا يراه الآخرون: ويتضمن الجزء الأول من رؤية ما لا يراه الآخرون استراتيجيتين هما: 1 معرفة كيف تري: تأتي العبقرية في أغلب الأحيان من إيجاد منظور جديد لم يعتنقه شخص آخر من قبل, وقد قال ليوناردو دافنشي إنه لكي يكتسب الإنسان المعرفة بحل المشكلات, يجب عليه أن يبدأ بتعلم كيفية اعادة هيكلتها بطرق كثيرة مختلفة, فقثد كان يشعر بأن الطريقة الأولي التي ينظر بها لمشكلة ما تكون شديدة الانحياز لأسلوبه المعتاد في رؤية الأشياء, لذا فقد كان يعيد هيكلة مشكلته عن طريق النظر إليها من منظور آخر, واستخدام أسلوب: ماذا لو؟ ثم ينتقل إلي منظور ثان ثم ثالث, ومع كل انتقال كان فهمه يتعمق, ويبدأ في فهم جوهر المشكلة. وربما كان أبرز ما يميز العباقرة هو أنهم لا يقتربون من المشكلات بشكل استرجاعي( تكراري), أي علي أساس المشكلات المماثلة التي سبق التعرض لها في الماضي, وذلك لأن تفسير المشكلات من خلال الخبرة الماضية سوف يؤدي بحكم التعريف إلي تضليل المفكر, وقولبة التفكير, ولكي يتم حل المشكلة بصورة إبداعية, يجب علي المفكر أن ينبذ المدخل أو المنهج المبدئي من الخبرة السابقة, ويعيد تصور المشكلة من جديد ليبدأ في الحل, وربما يبدأ تحقيق الحلم والوصول إليه من خلال تساؤل يسأله المبدع لنفسه, ثم يسير بطريقة حيادية في طريق البحث عن إجابته لكي يصل إلي حل. 2 اعطاء تفكيرك شكلا مرئيا: ولقد ارتبط تفجر الإبداع في عصر النهضة ارتباطا وثيقا بتسجيل ونقل كم هائل من المعارف بلغة موازية, وهي لغة الصور والرسوم البيانية والتخطيطية مثل الأشكال البيانية الشهيرة لدافنشي وجاليليو و إديسون وغيرهم, وما أن يكتسب العباقرة حدا أدني في مهارة معينة, حتي يتسني لهم اكتساب قدرات بصرية ومكانية, تمنحهم المرونة اللازمة لتخيل وعرض المعلومات بطرق وأساليب مختلفة, وحينما كان أينشتاين يفكر في مشكلة ما, كان يجد دائما أن من الضروري صياغة موضوعه بأكبر عدد ممكن من الطرق, بما في ذلك الأشكال البيانية والصور, فقد كان يتمتع بعقل وذاكرة بصرية هائلة, وكان يفكر من منظور الأشكال البصرية والمكانية, وليس من منظور التفكير الرياضي أو اللفظي فقط, فما بالنا الآن ولدينا هذا الساحر الكمبيوتر الذي يمكننا من رؤية ما نتخيله من الأشياء بأبعادها الثلاثية والرباعية... وأخيرا أتمني أن يخبرنا علماؤنا وأدباؤنا من المبدعين والعباقرة من أمثال د. أحمد زويل, ود. فاروق الباز و د. شريف مختار, و د. محمد غنيم وغيرهم, في شتي المجالات والتخصصات عن الصفات الشخصية التي يرونها في أنفسهم بعيدا عن ذكائهم الموروث التي أوصلتهم إلي هذا المستوي من العبقرية والإبداع. وللحديث بقية أن شاء المولي عز وجل.