عندما وقف الخادم أمام سيده المستغرق فى نومه، طرح سؤاله: لم أنت مولود فى دنيا الله هذه؟ كان النوم هو الذى رخص للخادم فى طرح سؤاله العلني، ولم يكن السؤال العلنى للخادم يتضمن أى لغة زاعقة شاكية؛ بل كان يعكس تساؤلاً يجسد عدم فهمه معنى وجود سيده الشاب فى هذه الدنيا. إن السؤال الصادق كان هو الكاشف عن شخصية هذا السيد الشاب، ومع أنه قد يعد صحيحًا القول بإمكانية أن الذات تقرأ ذاتها، وهو ما يوضحه هذا الشاب بنفسه، معبرًا عن درجة إدراكه ذاته والعالم من حوله بقوله: « إننى أعرف كل شيء وأفهم كل شىء, ولكن ليست لدى الإرادة القوية»، ومع ذلك يبقى رهاننا على المساحات غير المقروءة؛ بل أيضًا على مدى امتحاننا للمقروء نفسه، كمحاولة إدراك موقف هذا الشاب، الذى يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا، وذلك برصد العلاقة بين ذاته ومجتمعه، وأى منهما يزحزح الآخر ويستبعده، وأيضًا كمقاربة لفهم ذلك الانفصام، وعدم التمازج، وغياب التفاعل والمشاركة بين وجوده وبين الواقع من حوله، تشخيصًا للوضع الذى دفع الخادم إلى المجازفة، فحول خطابه المستتر الخفى إلى خطاب علني. تجلى تعاضل مشكلة هذا الشاب فى أن تألق فاتحة حياته منذ أيام دراسته الجامعية، لم يش بما ستكون عليه صورته الراهنة، المفارقة لمقدمات بناء ملامح صورة ناصعة، تتكامل وتتضافر مقوماتها بين جدائل طبيعية وأخرى مكتسبة، فتمازج ذكائه بثقافته الرفيعة - تلك الثقافة التى شكلت وجدانه، وأضاءت نفسه، وأثرته روحيًا- فكان نتاج ذلك التمازج خصائص إنسانية إيجابية أهلته لقبول اجتماعى فى وسطه، وولدت لديه بزخمها حلمًا بالتفتح على العالم، والرغبة فى اجتلاب المعارف التى تترامى مناهلها، وهو حلم مثقف يمزج دائرة الفكر بدائرة السلوك نفعًا لوطنه؛ إذ كانت الحياة لديه- وعلى حد تعبيره- «فكرًا وعملاً». لكن يبدو أن هناك تصادمًا بين المعلن من المقاصد، وبين عدم كفاية الإرادة الفاعلة، تمامًا كما قرأ هو ذاته بذاته. لقد غادر حلمه دوائر العمل، وابتعد عن خط المواجهة، واكتفى بإطلالة الانتقاد على الواقع المحيط، فأزاح واقعه بعيدًا عنه وعن إمكان تغييره، حين أعلن الولاء لنفسه فقط، وذلك بعدم رغبته فى أى صراع مع الحياة أو مع الناس، وانصياعه الطوعى لأن يعيش فى هدوء، وإيغاله فى القطع مع مجتمعه، منذ استقالته من عمله، معتمدًا على ما تدره عليه المزرعة التى يمتلكها، ويمتلك معها ثلاثمائة فلاح يضخون له ما يحقق له حياة الدعة. لقد أزاح ثقافته ومعارفه حتى أصبح فريسة الكسل والخمول والحياة الفارغة أمام الوجود، ولم يكن السبب هو عدم كفاءة أو عدم جدارة هذا المثقف الذكي، لكن السبب فى داخله، كنوع من انقراض الذات؛ فقد حجب الكسل والخمول المشاعر الإنسانية كلها؛ بل كل ما اكتسبته البشرية من قيم اجتماعية، نتيجة لترسيخ يقينى لديه بأنه لا يصلح لأى عمل، فأسقط بذلك العمل كمطلب حيوى لدى الإرادة الإنسانية. لقد أخفق فى علاقته بالفتاة التى أحبته؛ إذ مع أنها كانت تعلم بخموله وكسله، ومع مشروعها وطموحها إلى نجاح إعادة تأهيله، ومحاولاتها المضنية كلها، فإنها أدركت فى النهاية استحالة تحقيق حلمها فى مشروع إصلاحه، فغادرته وغادرت البلد، وهاجرت بعيدًا عنه، إذ لم يستطع الحب أن يخرجه من عزلته. إن مأزقه المتنامى هو اختزاله معنى الحياة فى مجرد الاضطجاع على أريكته، هذا الاضطجاع المتواصل المستمر، أصبح يشكل له عجزًا طبيعيًا، صارفًا عنه الانشغال بمشاكل الحياة والارتباط بواقعه، وأصبحت تصوراته الذهنية عدته فى استدعاء مشروع ذاتى لحياته، جوهره خصومة العمل، وأيضًا رفض التغيير، وقطيعة المشاركة، والإذعان للانغلاق على الذات، استهدافًا لأن ينأى بنفسه عن الواقع والحياة كى يحيا هانئًا؛ فإذ به يلغى نفسه، ويهجر فاعليته ويحولها إلى مساحة عاطلة وغير منتجة. لقد جاهر ومارس قناعته التى تحدد نمط علاقته بمجتمعه وبالناس، وكأنه اختار من ثلاثية تجليات الحياة الاجتماعية، اثنين فقط هما: الوجود الاجتماعي، والوعى الاجتماعي، ثم بانعزاله وقطيعته مع مجتمعه، رفض الدور الاجتماعى الذى يترسخ بالسعى إلى تحمل المسئوليات اليومية، والانخراط فى ملامسة الأحداث واستقرائها، والتصدى لها والعمل على تغييرها. هذا السيد الشاب أصبح أسير الجمود، وكان أهم ما يخشاه هو التغيير الذى يمكن أن يطرأ على حياته، لقد غدا سلوكه كمن يدرك أن أمامه بابًا لا يبغى فتحه، وسؤالاً لا يود أن يسأله، لأنه يدرك أنه لو فعل ذلك لتغير تمامًا، فهو يتمتع بكسله وخموله حتى إنه فى نومه يحلم بالرغبة فى النوم؛ لذا فهو ينام حياته ويكبر وينمو، لكنه أبدًا لا يعيش حياته. صحيح أن الشخصية التى تدعى «أبلوموف»، تجسد نموذجًا معياريًا لذلك الإنسان الذى يؤسس لنفسه حصنًا ذاتيًا فرديًا، يشكل له خلاصًا من جاذبية الانتماء الاجتماعي، فيعطل إحساسه واستشعاره وإدراكه لواقعه؛ بل يحجب رؤيته للحقيقة التى تؤسس لحضور المعنى الاجتماعى الذى يرضى الحس الإنسانى العام، ويرسخ للإحساس بالمسئولية تجاه الخاص والعام، تجاه الذات وتجاه المجتمع، كقيمة إيجابية لا يصيبها الكسل أو الارتخاء أو التلاشي، وتمتلك طاقات الإكراه والإنصاف التى تنتظم فى سلوك، وفقًا لقواعد الممارسات الاجتماعية فى ضوء العقلنة والاستيعاب المعرفي، والصحيح أيضًا أن هذه الشخصية أبدعها الكاتب الروسى «إيفان جنشياروف 1812 1891»، فى روايته التى تحمل اسم هذه الشخصية، وقد احتفت الحركة النقدية الروسية بهذه الرواية، وصاغت من الشخصية الرئيسية نموذجًا معياريًا باسم « الأبلوموفية» يعنى الشخص الزائد على حاجة مجتمعه. لكن الصحيح كذلك أن تشخيص حالة «أبلوموف» تتبدى فى أنه لا يستطيع التحرر من محددات تتلبسه، وأصبحت هى وجهه ويده ولسانه حتى تيبس وجودًا وانعزل بقطيعة مع إمكاناته الإنسانية، لكنه وحده بعزمه يستطيع أن يشحذ إرادته بفعالية كفاحية تتطلب منازلة السبب الخفي، لاستحضار إرادته الذاتية لمناهضة استسلامه، إنها لحظة وعى متجددة الحضور والفعالية بقدرتها على القطع مع ما يجب الانفصال عنه، بيقين أن الإرادة هى شرط الوجود الإنساني، وغيابها يعنى الهزيمة العقلانية، والإجهاض للهوية، والوجود الموهوم. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى