هذا مبدع يمتلك موهبة متعددة الرءوس. يكتب مسرح الحكي، ومسرح شعر العامية، والشعر، والزجل، وكلما وجد متسعا من الوقت ترجم كتاباً خاصاً. مرة عن مأساة الأرمن في تركيا بداية القرن العشرين، وآخر عن أدب الأطفال الشعبي في أيرلندا، وثالثا عن «وعد بلفور»، ولأنه لا يضيع وقته، يتنقل بين خشبة المسرح، والندوات، ومكتبه في البيت بذات الهمة، وبطاقة متعطشة ومتجددة، يبحث عن مسارات لكتاباته الجديدة، من دون أن تفارق الابتسامة وجهه في أي حال، ويقبل بقلب مطمئن على الفن، والحياة، آملا في غد مشرق، تعج فيه مسارحنا بالجمهور، وتنتشر المكتبات مرة أخرى في بيوت الطبقة المتوسطة، وتشيع عادة القراءة في الأماكن العامة والمواصلات، ويعتنق مجتمعنا النقاش والجدل الإيجابي. ميسرة صلاح الدين».. مبدع قادم بثقة تستحق الالتفات. كيف تجنبت مزالق الحكى وغواياته، وسحبت المسرح «بالحكى اللطيف» إلى القضايا المهمة بلا مشقة؟ إن كان للكتابة توءم فهي المشقة. أو هكذا الحال عندي دائما، فهذا الذي يبدو لطيفا وسهلا للمتلقي، استغرق مني شهورا وربما سنوات من التفكير والتخطيط قبل أن يخط قلمى سطرا واحدا فى حرم غوايته. ولم يختلف الأمر كثيرا حين بدأت كتابة مجموعتى الأخيرة «ترام الرمل» التى تضم ثلاثة نصوص مسرحية تنتمى إلى مسرح الحكى الغنائى، وهي «ترام الرمل، والصندوق الأسود، وأحوال شخصية»، وتناقش «ترام الرمل» تاريخ الاسكندرية وواقعها المعاصر وقصص شوارعها وسكانها فى رحلة داخل أيقونة المدينة «الترام الأزرق» الذى يجوب شوارعها، حاملا أحلام وحكايات عابريها، ورغم أنى قضيت حياتى كلها فى الإسكندرية، وأزعم أننى أحفظها عن ظهر قلب، فقد احتجت وقتا طويلا لتحديد الأماكن، ودراسة التفاصيل التى استخدمتها فى العمل، ولم يختلف الحال كثيرا فى «أحوال شخصية، والصندوق الأسود»، وهما مسرحيتان عن معاناة المرأة والتحديات التى تواجهها، ما تطلب منى إعادة النظر وتقييم كل ما عرفته ورأيته عن المراة وقضاياها، بالبحث فى المدونات والدراسات العلمية وحضور ورش عمل وحلقات نقاشية وجلسات دعم وإرشاد متخصصة، ثم الانفصال عن كل هذا وتكوين وجهة نظر حاولت أن تكون واقعية وصادقة قدر الإمكان. ثمة فارق بين الحكي العميق والثرثرة الفارغة، كيف يمكنك تتفادى هذه «الخيّة» الخفية؟ انتشر مسرح الحكى فى الآونة الأخيرة بشكل كبير، ويعتمد فيه الحكاءون والممثلون على قدراتهم التمثيلية، ومهاراتهم فى الجذب والإقناع أو أسلوبهم الشيق الرشيق، لكن بالنسبة لى لم تكن تلك نقطة الانطلاق، ربما لأننى فى المقام الأول أقدر قيمة الكلمة المكتوبة والنص المطبوع، وأعلم أهمية الكلمة التى تحمل عوامل بقائها، بغض النظر عن الأدوات والتقنيات المسرحية والتمثيلية المساعدة، لذلك عندما بدأت كتابة مسرحياتى الحكائية حاولت اختيار المفردات المعبرة عن الشخصيات ورسم أبعادها النفسية والاجتماعية، وخلق حالة عامة فى النص بخلاف حكايات الشخصيات الخاصة، وارتكزت على التكثيف والدراما، بجانب الأغانى التى كان لها هدف درامي لضبط الإيقاع والانتقال بين الحالات والحكايات المختلفة. مسرح «شعر العامية» عرضة أيضا لمزالق مسرح الحكى، والغوايات ذاتها، فكيف صالحت بين شرطيهما؟ للشعر عالمه الخاص وقوانينه الحاكمة المنتمية لجنسه ونمط كتابته، وكذا حال المسرح فيما يتعلق بالنوع والنمط وقواعد الكتابة، وجمعهما بعمل واحد كان من الصعب الإقدام عليه، لكننى فعلتها. ربما بسبب إيمانى الشديد بأن الفن لا يخضع للقوالب، وأن قدر الفنان السعى دائما لتحدٍ مختلف، وخلق عوالم جديدة لا تخضع للسائد، ولا تقبل بقيود المألوف، والجمع بين المسرح وشعر العامية تطلب مني كثيرا من الجرأة والصبر، وإعادة انتاج وكتابة النصوص مرات متكررة مثل «بنادورا، والورد البلدى» لأصل لدرجة من الرضا عن التجربة التى أتمنى تكراراها مستقبلا. هل يمكن لشاعر عامية كتابة مسرح شعر العامية؟ يبدو السؤال منطقيا، لكني أراه مفخخا. ويتطلب حكما لا أستطيع تعميمه. فقد جمع بعض كبار الشعراء والكتاب على مر التاريخ بين الشعر والمسرح، وكانت أعمالهم صروحا شاهقة، نقف أمامها برهبة وإعجاب. وبعض الشعراء المصريين نجحوا بتحقيق هذه المعادلة الصعبة باقتدار شديد ومنهم شعراء العامية الكبار «صلاح جاهين» و«نجيب سرور»، وليت جيلنا يلحق بهما، ويتخذ منهما إلهاما ودافعا للتحدى، لكن فى النهاية كتابة «مسرح شعر العامية» ليس هدفا لذاته، لكن الهدف الحقيقى لأى شاعر تحقيق بصمته الخاصة واسهامه الحقيقى فى المشهد الشعرى والأدبى الذى يعبر عنه وعن حقيقة وجوده وتجربته الإبداعية، سواء كان اسهامه بيتا شعريا أو ديوانا أو مسرحية شعرية كاملة، فلكل منها جماله، وصعوبته. «زجلوتير» فن خاص بك، زاوجت فيه بين الزجل والكاريكاتير بشكل مختلف، فلأى مدى وصلت فيه، وهل أفلحت فى ترسيخه كفن جديد؟ «زجلوتير» مشروع فني تعتمد فكرته على التعبير عن الشخصيات المصرية الرائدة فى مجالات مختلفة بمقطوعات زجلية بسيطة، تبرز روح الشخصية وأعمالها، وكتبت أكثر من ثلاثين شخصية، ونفذتها بالتعاون مع الفنان التشكيلى «مصطفى سليم»، وما زلت أعتبر المشروع فكرة فى خطواتها الأولى، ومن الممكن العمل عليها لوقت أطول وبعمق وتنوع أكبر، فى اختيار الشخصيات والتعبير عن مضامينها فى إطار دعم الشخصية المصرية الأصيلة، وتوطيدها كقوة ناعمة، وأطمح لإخراج الفكرة للنور في معرض للرسوم والنصوص، وكتاب مطبوع وربما فى أحد الأشكال الغنائية أو المسرحية. أيضا ترجمت عن الإنجليزية كتابا سياسيا بعنوان «الجبل العميق»، وهو لكاتبة تركية عن مأساة الأرمن فى تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى، فما الذى أغراك بنقله إلى العربية، هل تعاطفك مع الأرمن، أم انشغال الفنان بمأساة إنسانية؟. «الجبل العميق» مجموعة مقالات ومقابلات للصحفية التركية المعارضة «إيجى تملكران» يتناول مأساة الأرمن برؤية معاصرة ومنظور أقرب لفن الرواية فى الصياغة والتناول. والحقيقة. لم يكن فى خطتى ترجمة هذا الكتاب المحمل بالتاريخ والسياسة والأيدلوجية، لكنى بعد قراءتي له بعناية أدركت أهمية الانفتاح على الثقافات المختلفة، وبدأت بترجمته مباشرة ليعبر عن مأساة الأرمن وغيرهم من الشعوب الأخرى تحت الحكم العثمانى فى مشهد مربك، تحاول فيه كل القوى الاستعمارية الحفاظ على مكاسبها، وتوسيع رقعتها على حساب الضمير الإنسانى والقيم السامية. ولك تجربة أيضا بترجمة الأدب الشعبى الأيرلندى للأطفال.. حيرتنى.. فما كل هذه الاهتمامات وما سبب اهتمامك بالاطفال والشعبى تحديدا؟ الترجمة عالم كبير وممتع يتيح للكاتب أن يوطد صلته بالآخر ويتعرف على ثقافته بقرب وحميمية خارج الأطر النمطية، فإن أضفنا لذلك العالم الرائع عالم الطفولة السحرى بغموضه وبراءته وانطلاقه ستدرك أهمية أن أترجم بعض قصص الأطفال، أما سبب اختيار «الشعبى الأيرلندى» فهذه القصص تأتى ضمن سلسلة تصدرها «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، وتهتم بالترجمة للأطفال من مختلف اللغات والثقافات، وهو هدف نبيل وطموح يستحق أبناؤنا أن نحققه لأجلهم، وأصدقك القول، هذه الترجمة تتسق مع رغبة جارفة منذ سنوات طويلة أن أكتب مسرحيات وأشعارا للأطفال، وفعلا بدأت بإعداد مشاريع أتمنى أن تجد طريقا لإتمامها.