الذين تابعوا لقطات الفيديو التى بثتها مواقع التواصل الاجتماعى للإرهابى الآثم الذى استهدف كنيسة «مارمينا» بحلوان، والذى صوّره الأهالى من شرفات منازلهم، لا شك أن أسئلة عديدة، ورسائل أكثر، قد دارت فى عقولهم. لو أنك كنت من الذين رأوا الفيديو على اليوتيوب فما الذى جال فى خاطرك وأنت تتابعه؟ ربما تكون الملاحظة الأولي، التى دارت فى عقلك وأنت تشاهد، هى تلك الجرأة التى بلغت حد الوقاحة (بل وما يشبه الجنون) التى راح الإرهابى يمشى بها فى الشارع الرئيسى جيئة وذهابًا؛ مختالًا متباهيًا بمدفعه الرشاش يطلق النار عشوائيًا هنا وهناك غير مبال بشيء ولا بأحد. كيف ذلك، وقد كنا فى الماضى نراهم كالفئران المذعورة يعملون عملتهم الخسيسة ثم يفرون.. فما الذى جري؟ هنا ستكون الإجابة المتسرعة أنه إنما فعل ذلك لأنه أدرك أنه ميّت ميّت ومن ثم لم يعد يعنيه ما سوف يجرى له (كثعبان سام حاصروه فى زاوية). غير أن هناك قراءة أخرى هى أن هؤلاء الإرهابيين خضعوا لعمليات مدروسة بعناية فائقة لغسل الأدمغة صورت لهم زورا وبهتانا أنهم إلى الجنة بلا منازع حتى لو قتلوا أطفالا أبرياء، أو نساءً ضعيفات، أو شيوخًا ذهبوا ليتعبدوا ويذكروا الله الخالق. المعنى هنا أننا أمام أشخاص فقدوا طبيعتهم البشرية فتحولوا إلى ما يشبه وحوش البرارى التى تسيطر عليها غرائزها فتهاجم فرائسها بلا تفكير أو رويّة، ودون إدراك للعواقب. ويترتب على هذا أن طريقة التعامل مع هذا النوع من الإرهابيين يتطلب أسلوبا آخر لا يعتمد فقط على مقاومتهم أمنيا (وإن كان ذلك مطلوبا بالطبع لوقاية الأبرياء من شرورهم)، بل أيضا على مكافحة الأدمغة المتطرفة، لإزالة ما تغلغل فيها من سواد وغباء. .. وهنا تأتى أهمية وضرورة إعادة النظر فى الثقافة التى تسود مجتمعنا الآن. وهى بالتأكيدمهمة منوطة بمؤسسات الوعى والتثقيف بالمجتمع، بدءأ من المدرسة، مرورا بالمسجد والكنيسة، وليس انتهاء بالإعلام والصحافة. والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو: هل فعلًا قام مثقفونا ومفكرونا وفنانونا بالدور المنوط بهم، أم أنهم غارقون حتى الأذقان فى التسطيح والتفاهة واستغرقهم البحث عن لقمة العيش؟ صحيح.. أين دور المثقف فينا؟ وستكون الملاحظة الثانية، التى لابد وأنها دارت فى أذهان من تابعوا الفيديوهات، هى تلك الجرأة والشجاعة اللتان واجه بها ساكنو الشارع العاديون هذا الإرهابي، والطريقة التى وثب عليه بها أحد المواطنين غير خائف من المدفع الذى بيده، ولا من الرصاص الذى يرشّه فى كل اتجاه حتى تم القبض عليه.. فما الرسالة التى تشى بها هذه الوثبة وهذا الهجوم المباغت؟ الرسالة ببساطة، هى أن المواطن المصرى البسيط لم يعد يخاف هؤلاء المسلحين الجبناء، وأن ثمة وعيا متصاعدا يتخلق الآن فى عقول هؤلاء البسطاء بأن الإرهاب يستهدفهم هم وأبناءهم، ومن ثم لم يعد مفر من المواجهة المباشرة، حتى لو كانت مواجهة بالصدور العارية وبقبضات الأيدي. وما معنى ذلك؟ معناه.. أنه مادام البسطاء قد بدأوا فى إدراك تلك الحقيقة فإنهم يكونون قد أعلنوا أنهم صاروا مشاركين إيجابيين فى المقاومة، ولن يقفوا مكتوفى الأيدى «يتفرّجون فقط». وبالفعل فقد رأينا فى الفيديو كيف أن «العاديين» هم الذين ساعدوا رجال الأمن فى القبض على الجاني.. ما يحمل على الاعتقاد بأن أى إرهابى غبى سوف يفكر ألف مرة قبل أن تمتد يده المجرمة بالأذى لأى أحد.. إذ هاهم الناس قد خرجوا من صمتهم وسلبيتهم وصاروا يقابلون الإرهاب وجهًا لوجه دون وجل ولسان حالهم يصرخ: «لا .. لن نستسلم لكم.. ولن تنالوا منا أيها الجبناء بعد اليوم». هذه واحدة، فأمّا الثانية، فهى أن الضمير الجمعى المصرى لا يفرّق بين مسلم ومسيحى فكلنا بشر خلقنا الله.. وكلنا فى مركب واحد يتعرّض للخطر، بل للغرق، وبالتالى ينبغى التوحد فى مواجهته (وهنا تجب الإشارة إلى إمام المسجد المجاور للكنيسة الذى خرج إلى الميكروفون مطالبًا الأهالى بسرعة الدفاع عن الكنيسة). .. إن الذين هاجموا الإرهابى القاتل فطرحوه أرضا رغم بندقيته المحشوّة رأوه وهو يعتدى على أبرياء مسيحيين ومع ذلك لم يشعروا بأى فرق، ووقر فى ضمائرهم ساعتها أنك أيها المأفون إن كنت تقتل اليوم مسيحيا فسوف تقتلنى أنا المسلم غدا. وهكذا فإن اللاشعور الجمعى لدى المصريين بات يدرك بذكاء أننا فى مواجهة خطر الإرهاب ينبغى ألا ننظر للأمر نظرة دينية.. بل مجتمعية إنسانية.. وهذا تطور لو تعلمون عظيم. وبالنسبة للملاحظة الثالثة، التى بالتأكيد لم تغب عن فطنة المتابعين للفيديو، هى الحسم والسرعة فى التعامل اللذين واجه بهما رجال أمن الكنيسة هذين الإرهابيين القاتليْن فأحبطوا مُخططا ضخما، وحموا الكنيسة من كارثة محققة. صحيح أنه قد سقط من الشرطة شهداء شرفاء نترحم عليهم، لكن الرسالة التى وصلت للجميع أن الشرطى المصرى لن يتردد فى دفع حياته ثمنا لحماية أهله؛ مسلمين كانوا أم مسيحيين. تلك الإيجابية تعنى أمرين، أولهما أن الشرطة لم تعد تكتفى برد الفعل بل إنها من الآن فصاعدا سوف تحسم الأمر من بدايته كى لا يتفاقم.. ما يشير بالتبعية إلى روح جديدة وثّابة أصبحت تسود جهاز الأمن عندنا.. وهذا تطور محمود يستدعى توجيه الشكر والثناء لأجهزتنا الأمنية. والأمر الثاني، أن تلك اليقظة سواء من الشرطة، أو من المواطن العادى تمثل نقلة نوعية جديدة فى المكافحة تقوم على حقيقة أن السلبية والتباطؤ والتلكؤ لم يعد لها مكان فى المعركة المحتدمة ضد الإرهاب.. والتى أصبحت معركة ِ«حياة أو موت». لمزيد من مقالات سمير الشحات