لو أنها توقعت ما سوف يحدث لها عندما تخرج من بيتها, لربما ترددت وتقاعست, لكنها كانت من فرط احتياجها وشدة فقرها, تستبشر خيرا بإمكان قضاء حاجتها, وحثت السيدة منوبية البوعزيزي خطاها نحو محكمة سيدي بوزيد صباح13 يوليو الحالي.2012 كانوا قد أخطروها بضرورة حضورها لاستكمال أوراق حصولها علي تعويض تمنحه الحكومة لأهالي شهداء ثورة14 يناير2011, وكان ابنها محمد البوعزيزي أول الشهداء الذين فجروا الثورة التي أطاحت بحكم بن علي. لكن السيدة ما أن وصلت إلي مقر المحكمة حتي نشبت مشادة كلامية بينها وبين موظف عمومي, وجري اعتقالها ثلاثة أيام, توطئة لمحاكمتها بتهمة التطاول اللفظي. وكانت قد أطلت بوجهها الحزين علي تونس لأول مرة عندما زار بن علي محمد بالمستشفي بعد أسبوع من إحراق نفسه في17 ديسمبر2010, احتجاجا علي مصادرة البلدية عربة الخضار التي كان يقتات من العمل عليها هو وأسرته. وصافح بن علي أم البوعزيزي, أمام كاميرات التليفزيون, وسلمها شيكا بعشرة آلاف دينار( أربعة عشرة ألف دولار), كتعويض عما ألم بابنها الذي كان يرقد مكفنا في الشاش. وما أن غادر بن علي غرفة محمد حتي انتزع مساعدوه الشيك منها, وهذا ما نقلته عنها صحيفة واشنطن بوست في مارس.2011 وهنا يقول الراوي: إن واقعة احتجاز السيدة منوبية في السجن ما كان ينبغي أن تحدث, وكان يمكن تقديرا لمعاناتها وكبر سنها إنهاء أوراقها بيسر وسهولة. لكنها الثورة يصنعها النبلاء والشهداء, ويحصد ثمارها الانتهازيون والسفهاء أحيانا. وحمدا لله أن الحكم صدر بسجن السيدة أربعة أشهر مع وقف التنفيذ. {{{ والغريب أنه في الوقت الذي كانت فيه أم البوعزيزي تتعرض لهذه المعاناة, كانت ليلي الطرابلسي زوجة الطاغية بن علي تصدر كتابا باللغة الفرنسية سمته حقيقتي, وتنصلت فيه من تورطها في الفساد الذي عم تونس, ونفت ما كان يتردد عن سعيها لتولي السلطة خلفا لبن علي, وكانا قد هربا إلي السعودية. ولعل ليلي لم تنس كتابا فرنسيا صدر عام2009, وكان عنوانه حاكمة قرطاج, وقد أرقها وأقض مضجعها, وفرضت حظرا مشددا علي توزيعه في تونس, وتقول الكاتبة ماري كولفين في مقال نشرته في23 يناير2011, إن ليلي كانت تخطط لتولي السلطة بحلول2013, توطئة لأن يرث ابنهما أحمد الحكم, وتشير الكاتبة إلي أن هذا ما أشار إليه كذلك كتاب حاكمة قرطاج. وكانت ليلي بهذه الفكرة الحمقاء قد تجاوزت في طموحاتها سوزان مبارك, التي أهدرت هي ومبارك السنوات العشر الأخيرة من حكمه في محاولة تكريس الوريث. وتتجلي حماقة هذه الفكرة ورعونتها من أنها ترمي إلي إحياء طقوس فترة تتسم بالتخلف والاضطراب في تاريخ العالم العربي, وهي فترة يطلق عليها نفر من المؤرخين حكم الغلمان والأطفال, وهذا ما فعلته شجرة الدر, وكانت من المماليك, عندما تولت الحكم في مصر, باعتبارها والدة خليل, ابنها من الملك الصالح أيوب. وقد انتهت حياتها بالموت اغتيالا بضرب القباقيب. {{{ ويبقي أن محمد البوعزيزي عندما أدي حرقه لجسده إلي إشعال ثورات الربيع العربي, قد حقق ما يطلق عليه نفر من علماء السياسة والاجتماع نظرية تأثير الفراشة, والمعني أن حدثا قد يبدو هشا مثل الفراشة, لكنه يفجر ثورات تاريخية, وتطورات بالغة الأهمية. وهذه الثورات, وتلك التطورات لا يمكن اعتقالها أو تغيير مسارها, مهما تكن شراسة الثورة المضادة, وأكاذيب ليلي. ولعل في هذا العزاء والسلوي لأم البوعزيزي, التي ربما لا تزال تسعي لاستكمال أوراقها للحصول علي تعويض من الحكومة لأسر الشهداء. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي