كيف لى أن أصف هذا الغضب الذى عم الشعور العام فى الوطن العربى والإسلامى إزاء ذلك القرار الأخرق الذى اتخذه الرئيس الأمريكى بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ضاربا عرض الحائط بجميع القرارات الدولية التى ترى القدس أرضا محتلة ليس من حق إسرائيل ضمها ولا يجوز للعالم الاعتراف بسيادتها عليها، ومستهينا بحقوق السكان الفلسطينيين الذين طردوا عنوة من ديارهم فى المدينة المقدسة؟! لقد نجح هذا الرئيس الأهوج فى عزل بلاده عن العالم أجمع بقراره هذا الذى عارضه أقرب حلفائه وليس العرب والمسلمون وحدهم، فها هى ألمانيا تعترض بشدة على القرار الأمريكى المفاجئ، وفرنسا وإيطاليا، وحتى انجلترا، وذلك التزاما بالقوانين والأعراف الدولية وإدراكا للبعد التاريخى للقضية الذى لا يمكن التعامل معه بهذا الاستخفاف الذى لم يصدر عن أى من الرؤساء الأمريكيين السابقين. لقد أراد دونالد ترامب الخروج من عزلته المتزايدة فى الداخل حيث فاق الهجوم عليه ما لاقاه ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووترجيت فى بداية السبعينيات، وخشية أن يؤدى ذلك الهجوم الى ما أدى اليه فى عهد نيكسون الذى اضطر للاستقالة تفاديا لمحاكمته الأكيدة وعزله من منصبه، لجأ ترامب إلى استرضاء ذلك اللوبى المتحكم فى السياسة الأمريكية، وهو اللوبى الصهيونى الذى يبدى مصالح إسرائيل على مصالح الولاياتالمتحدة ذاتها، لكن ترامب بذلك استبدل عزلته الداخلية بعزلة خارجية لم تشهدها بلاده لا وقت حربها فى العراق ولا حتى وقت حربها فى فيتنام. لقد أعلن ترامب قراره المشئوم وغير المدروس فى ذكرى مرور مائة سنة على الوعد المشئوم أيضا الذى تسبب فى قيام هذه الأزمة الدامية عام 1917، وهو وعد بلفور والذى يأتى قرار ترامب متمما له، لقد تصادف أن كنت أراجع فى الوقت الذى صدر فيه القرار، المراسلات التى جرت بين الرئيسين جمال عبد الناصر وجون كيندي فى أوائل الستينيات ووجدت خطابا من الرئيس عبد الناصر يشرح فيه ببساطة شديدة للرئيس الأمريكى مشكلة الاحتلال الإسرائيلى التى خلفها وعد بلفور وكأنه كان يعد ذلك الخطاب للرئيس الأمريكى الحالى الذى لا يبدو أنه يعرف حقائق التاريخ ولا الجغرافيا فى هذا الجزء من العالم الذى سمح لنفسه أن يعبث بمصيره بهذا الشكل الأهوج. يقول عبد الناصر لكيندي عن وعد بلفور كلمته الشهيرة التى أصبحنا نرددها دون أن نتذكر أن عبد الناصر هو صائغها: «لقد أعطى من لا يملك، وعدا لمن لا يستحق، ثم استطاع الاثنان بالقوة وبالخديعة، أن يسلبوا صاحب الحق الشرعى حقه، فيما يملك، وفيما يستحق». ثم يضيف: «تلك هى الصورة الحقيقية لوعد بلفور، الذى قطعته بريطانيا على نفسها، وأعطت بموجبه عهدا على أرض لا تملكها، وإنما يملكها الشعب العربى الفلسطينى، لإقامة وطن يهودى فى فلسطين. وعلى المستوى الفردى يا سيادة الرئيس، فضلا عن المستوى الدولى، فإن الصورة على هذا النحو تشكل قضية نصب واضحة تستطيع أى محكمة عادية أن تحكم بالإدانة على المسئولين عنها». ثم يقول عبد الناصر: «وللأسف فإن الولاياتالمتحدة وضعت ثقلها كله فى غير جانب العدل والقانون فى هذه القضية، مجافاة لكل مبادئ الحرية والديمقراطية الأمريكية، ومن المؤسف أن الدافع لذلك هو اعتبارات سياسية محلية لا تتصل بالمبادئ الأمريكية ولا بالمصلحة الأمريكية فى الخارج، وقد كانت محاولة اكتساب الأصوات اليهودية فى انتخابات الرئاسة هى ذلك الدافع المحلى، ولقد قرأنا لأحد السفراء الأمريكيين السابقين فى المنطقة، أن سلفكم الرئيس هارى ترومان حين ألقى بكل قوته، النابعة من منصبه الخطير على رأس الأمة الأمريكية، ضد الحق الواضح فى مستقبل فلسطين، لم يكن له من حجة إزاء الذين لفتوا نظره من المسئولين الى خطورة موقفه غير قوله: «هل للعرب أصوات فى انتخابات الرئاسة الأمريكية؟» ثم يختتم عبد الناصر خطابه لكيندي قائلا: «أؤكد لك بكل صدق يا سيادة الرئيس أن ما يحكم موقفى ونظرتى إلى قضية فلسطين ليس كونى رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، وإنما الأصل والأساس هنا هو موقفى ونظرتى كونى وطنيا عربيا من ملايين الوطنيين العرب». هل قرأ ترامب هذه الخطابات؟ هل وجد من يشرح له أن الأرض التى وعدت بها بريطانيا اليهود هى ملك للشعب الفلسطينى، بما فى ذلك القدس؟ وإذا كان قرار التقسيم عام 1947 قد منح الدولة اليهودية مساحة محددة فى فلسطين، فإنه منح مساحة أخرى للسكان الفلسطينيين، أما القدس فلم يمنحها لأحد وانما نص على تدويلها، لكن إسرائيل خالفت القرار الذى استمدت منه شرعيتها فاحتلت الشق الغربى من المدينة عام 1948، واحتلت الشق الشرقى عام 1967، وهو الاحتلال الذى لا تعترف به الأممالمتحدة ولا بقية دول العالم، فكيف يأتى اليوم ترامب الذى لا يبدو أنه يعلم شيئا من ذلك، أو أنه يعلمه ويتجاهله، ويعلن بهذه البساطة أن من حق اسرائيل أن تقيم عاصمتها أينما شاءت، وكأن الأرض كلها أرضها تقيم فيها عاصمتها كما تريد؟!. ويبقى الآن السؤال: ماذا نحن فاعلون؟ لقد استغل رئيس الوزراء التركى الموقف فتقمص دور زعيم الخلافة وأعلن أن القدس خط أحمر، وأنه سيدعو الى مؤتمر للدول الاسلامية كلها، وأنه قد يصل الى قطع العلاقات ليس مع الولاياتالمتحدة التى أصدرت القرار، وإنما مع إسرائيل (!) فماذا سيغير هذا على أرض الواقع؟.. لقد انفجرت الآن المظاهرات الغاضبة فى فلسطين وبدأ سقوط الشهداء برصاص الاحتلال الاسرائيلى، ولن تصلح المزايدات التركية من الأمر شيئا. إن ما نحتاجه بالفعل هو قمة عربية جادة وعاجلة تتخذ القرار المقابل للقرار الأمريكى فتعلن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المعترف بها من كافة الدول العربية ومن المجتمع الدولى أيضا والتى تتمتع بعضوية الأممالمتحدة وجميع منظماتها، وأقول القدس وليس القدسالشرقية، فقرار ترامب لم يقتصر على القدسالغربية وانما تحدث عن القدس دون تمييز بين ما احتل منها فى 1948 وما احتل منها فى 1967. إن هذا القرار العربى إنما يبطل قرار ترامب لأنه لا يترك له الكلمة الأخيرة ويؤكد أن السيادة على القدس مازال متنازعا عليها، وأن قرار ترامب لم يحسم ذلك النزاع لمصلحة اسرائيل، وهو ما قد يدفع بقية دول العالم التى أعلنت رفضها قرار ترامب، لأن تمنح نفس حق إقامة العاصمة لأصحاب الأرض المحتلة وليس للمحتلين. لمزيد من مقالات ◀ محمد سلماوى