بينما كان العالم يترقب إطلاق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مبادرته للسلام فى الشرق الأوسط، المسماة اصفقة القرن«، فوجئ بإطلاقه قنبلة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ليشعل أكبر موجات الغضب ضد الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وتلحق الضرر بأصدقائه قبل أعدائه، وتنهال عليه بيانات الإدانة والتنديد من كل صوب، بدءا من الاتحاد الأوروبى وحتى أقرب حلفائه فى بريطانيا مرورا بألمانيا وفرنسا وباقى التجمعات الدولية فى كل أنحاء العالم، ويجد ترامب نفسه وحيدا مع رئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو فى مواجهة كرة غضب تتدحرج وتشتعل فى جمعة الغضب. مظاهرات الغضب عمت أرجاء واسعة من دول المنطقة والعالم، وجرفت كل الجهود الأمريكية لتهيئة شعوب المنطقة للقبول بالتطبيع، وربما إقامة نوع من التحالف الأمنى والاقتصادى يستطيع حصار التمدد الإيرانى والروسي، ويحمى إسرائيل ودول الخليج بعد الفشل الأمريكى فى سورياوالعراق، لكن ترامب أطاح بكل الجهود الأمريكية طوال سنوات، وأصدرت الإدارة الأمريكية تحذيرات لرعاياها بالخروج من المناطق المشتعلة بالغضب والعنف. يبدو أن ترامب لم يسأل نفسه: لماذا لم يسبقه رئيس أمريكى واحد إلى اتخاذ قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس رغم مضى 50 عاما على احتلال إسرائيل للقدس و22 عاما على قرار الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية إليها؟ المؤكد أنهم كانوا أكثر إدراكا لمخاطر الإقدام على هذه الخطوة على مصالح الولاياتالمتحدة وإسرائيل، لكن ترامب تعامل مع قضية القدس بنفس الرؤية الضيقة للاتفاق النووى مع إيران، وكانت النتيجة أن أصبح معزولا مع نيتانياهو، ولم يحصدا سوى الخيبة والغضب، فقد جمعا بين الحماقة وقصر النظر، فسقطا فى فخ أزمة ستطول، فلا يشغل ترامب سوى محاولة إبعاد شبح محاكمته وإقالته من منصبه، وخروجه من البيت الأبيض، وهو ما رأى أنه أصبح قريبا من التحقق بعد أن كشفت التحقيقات عن ارتكاب شخصيات من إدارته جريمة الكذب وتضليل العدالة، وتدنت شعبيته إلى 35% بعد أقل من عام على توليه الرئاسة، ويراهن على طوق نجاة يلقيه إليه اللوبى اليهودي، بما لديه من نفوذ سياسى وإعلامي، يمكن أن يظهره بأنه الرئيس الشجاع الذى حقق ما عجز عنه سابقوه. قد يتمكن ترامب من إنقاذ نفسه وترميم شعبيته المتداعية فى الولاياتالمتحدة، وقد يفرح نيتانياهو بأنه رئيس الوزراء الوحيد الذى انتزع هذا المكسب، ليلوح به فى الانتخابات المقبلة، ويغطى على فضيحة الفساد وعجزه عن طمأنة الإسرائيليين من صواريخ حزب الله واقتراب الحرس الثورى من حدود إسرائيل، بعد هزيمة الجماعات التكفيرية فى سورياوالعراق، لكن الأحداث تقاس بنهاياتها، وإن كانت البدايات لا تبدو مبشرة لا للولايات المتحدة ولا لإسرائيل، فنيتانياهو لم يستوعب درس اندلاع موجات عنف عقب وضع حواجز وكاميرات حول المسجد الأقصي، واضطرار حكومته إلى التراجع والتصويت على رفعها بعد أسبوع واحد فقط فى يوليو الماضي، فماذا سيكون الحال مع مسألة تتعلق بالقدس بكاملها؟ الانتفاضة الفلسطينية الجديدة مهيأة للتمدد وتفجير حرب جديدة مع غزة المكدسة بصواريخ أبعد مدى وأكثر فتكا، وشبكة أنفاق أوسع، وصواريخ كورنيد صائدة دبابات الميركافا، خاصة بعد أن أعلنت كل الفصائل الفلسطينية وفاة اتفاقية أوسلو، والرفض المسبق لصفقة القرن، ورفض الرئيس محمود عباس استقبال نائب الرئيس الأمريكي، ليصبح خيار المقاومة هو الوحيد المطروح، لتعلن إسرائيل حالة الاستنفار القصوى داخل القدس والضفة وحول غزة وفى الجولان السورى المحتل والجنوب اللبناني، وهى جبهات قابلة للتفجير فى أي لحظة، وقد انطلقت بالفعل صفارات الإنذار فى إسرائيل بعد انطلاق صاروخين من غزة على أشدود وعسقلان، ردت عليهما المدفعية والطائرات الإسرائيلية فى أول إرهاصات المواجهة، التى يمكن أن تكون الأشد دموية واتساعا من سابقاتها، لتلهب مشاعر العرب والمسلمين وكل المتعاطفين مع القضية الفلسطينبة، لتجد إسرائيل نفسها محاصرة ليس بالكراهية ومظاهرات الغضب فقط، وإنما ستحفز الجماعات والدول الأكثر تشددا على تصدر المشهد. ومع تنامى موجة الغضب سوف تضر الولاياتالمتحدة أصدقاءها «المعتدلين» والذين كانوا يترقبون إطلاق «صفقة القرن» لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن حل الدولتين أصبح مستحيلا دون القدس ومع تقطيع أوصال الضفة، لتتبخر أحلام السلام وتنبعث أبخرة دخان الحرب. ستجد روسيا أن الولاياتالمتحدة قد انكمشت تحت وطأة مظاهرات الغضب وأعمال العنف والإدانات الدولية، وهى فرصة لا يمكن لبوتين أن يفوتها، ليعزز الوجود الروسى فى المنطقة، بينما ستجد إيران الطريق معبدا بالغضب ضد أمريكا وإسرائيل، لتقوى حضورها من العراقوسوريا ولبنان إلى غزة والضفة، ليكتشف ترامب أنه أطلق الرصاص على قدميه وألحق الضرر بأمريكا وإسرائيل واصدقائهما، ليضيف فشلا جديدا إلى قائمة الخسائر الأمريكية. لمزيد من مقالات ◀ مصطفى السعيد