توقفت كثيرا عند رسالة الكلمة الأخيرة التي تقول كاتبتها فيها إن الحياة مع زوج يطيعها وتكون كلمتها هي المسموعة في البيت, أفضل كثيرا من زوج متسلط لا يلقي بالا لها, ويشخط وينطر, ويجبرها علي تنفيذ أوامره كما هي. وكانت بذلك ترد علي رسالة الخطوة الأخيرة للسيدة التي عانت كثيرا من سلبية زوجها, مما دفعها إلي طلب الطلاق.ودفعتني الرسالتان إلي أن أكتب إليك قصتي, فأنا سيدة عمري تسعة وخمسون عاما, ونشأت في أسرة سعيدة بين أبوين وأخوين, وجمعتنا المحبة والألفة والسعادة, وكنت الابنة المدللة لأبي, ووجدت من حولي يقولون إنني طالعة لأبي وأمي فزاد ذلك من ثقتي في نفسي, وتفوقت في دراستي, والتحقت بكلية من كليات القمة, وتفوقت فيها, وفور تخرجي عملت بواسطة أبي في وظيفة مرموقة, وتقدم للزواج مني شباب كثيرون, وفوضت مسألة الاختيار لوالدي, فاختار لي أحدهم متوسما أنه الأفضل لي, ولم تمر أشهر معدودة حتي اكتشفت أننا لا نتفق علي شيء, وجلست مع نفسي وحدثتها أن حياتي سوف تسير علي هذا النمط الذي لا يستقيم أبدا, وكنت وقتها حاملا في طفلي الأول, فأجلت الكلام في هذا الموضوع إلي ما بعد الولادة, وبعد أن وضعت طفلي ذهبت إلي أبي وشاورته في انفصالي عن زوجي, فرد علي قائلا: طالما أنه ليس هناك عيب جوهري فيه, فلا معني لهدم البيت, فعدت إلي منزلي, وجاهدت نفسي وحاولت الصبر كما قال لي أبي, وعاودت الحديث معه مرات ومرات, فكرر علي الإجابة نفسها, وعلي الجانب الآخر بذلت قصاري جهدي لتغيير طباع زوجي, ولو تدريجيا لكني فشلت, واستمر علي حاله. ومرت السنوات, وأنجبت من زوجي ثلاثة أطفال, وبعد الطفل الثالث كنت قد وصلت معه إلي طريق مسدود, وأيقنت أنه لا جدوي من المسكنات بعد أن أصبحت الحياة معه مستحيلة, فكتبت إلي المرحوم الاستاذ عبدالوهاب مطاوع بتفاصيل مشكلتي ورجوته ألا ينشرها, وأن يرد علي في زاوية ردود خاصة لكي لا يعرفني القريبون مني, وبالفعل جاء رده: انج بحياتك وانفصلي عنه والله المستعان. وهنا توجهت إلي والدي والدموع تملأ عيني, وتوسلت إليه أن يرحمني من العذاب الذي أعانيه, حيث أموت ببطء, ولا أحد يشعر بي, فأنا من تعيش في المنزل وليس هو, فإذا بي أري منه وجها لم أعهده من قبل, وأعلن بوضوح أنه يرفض تماما فكرة الطلاق, وهددني بأنه سيغضب علي, ويقاطعني مدي الحياة, وسألني السؤال الذي لا إجابة له: ماذا سيقول عنك الناس وأنت السعيدة دائما أمامهم, وصاحبة المركز المرموق؟ وكالعادة عدت إلي منزل زوجي وأنا خائفة من تهديد أبي لي, وتجرعت الحياة المرة, وكبر أبنائي, وأنا لست بالحية ولا بالميتة, وصرت شبحا بعد أن كنت زهرة المنزل, ورحل الضحك عني بلا عودة, وعانيت أمراضا كثيرة قال الأطباء إن أسبابها نفسية, واستمرت معاملة زوجي لي بطريقته نفسها التي لا أحب الخوض في تفاصيلها, وأنهي أولادي دراساتهم وتزوجوا, واستقل كل منهم بحياته, ولم أعد أري أيا منهم إلا في المناسبات, فهم دائما مشغولون بأعمالهم, وازدادت معاملة زوجي لي سوءا بمرور الزمن, وزاد الطين بلة أنني علمت أن له علاقات نسائية, وأخبرني معارفي بزواجه العرفي من إحداهن. وسيطر علي الصمت التام بعد أن استنفدت كل السبل في انتزاع موافقة أبي علي طلاقي, أو إصلاح أحوال زوجي, وأصبحت ألمح في عيني أبي كلاما لا يستطيع قوله, حتي دق هاتفي ووجدت علي الخط والدتي ترجوني القدوم بسرعة, لأن أبي يريد أن يراني, فذهبت إليه فإذا به يعاني سكرات الموت, وما أن رآني حتي أمسك بيدي وهو يبكي, ويطلب مني أن أسامحه علي موقفه مني قبل أن يلقي وجه ربه الكريم, فمر شريط حياتي الطويل علي ذهني في لحظة, واسترجعت كل سنوات عمري الحزينة التي شارك أبي فيها الزمن في الفتك بي, ولم أستطع النطق بكلمة واحدة, فتركته وعدت من حيث أتيت أخلف ورائي جروح سنين طويلة تسبب هو فيها, ولم يقف إلي جواري حتي أتجاوزها. وها أنا في نهاية العمر, حيث لا بداية بعد الآن, ومازلت أعاني القهر, والوحدة, والمصير المجهول, وبعد عام سوف أصل إلي سن المعاش لأعاني فراغ الزمان والمكان. وأريد أن أقول لصاحبة رسالة الكلمة الأخيرة إن المشكلات تتفاوت من شخص لآخر, ومن الظلم أن نحكم علي الناس بما يتفق مع أهوائنا, فأنت تتحملين الإهانة, لكن غيرك لا تتحملها, وربما لو كان قانون الخلع موجودا وأنا في شبابي للجأت إليه للخلاص من الجحيم الذي أنهي عمري, واليوم أجدني في أشد الندم لأنني لم أقف موقفا أغير به مسار حياتي, ولو فعلت ذلك لأصبحت في وضع أفضل مما أنا فيه, أما الأبناء الذين يتذرع بهم البعض لعدم الانفصال فإن الطلاق أفضل كثيرا من أبناء المشكلات, وإنني أشكر الاستاذ أحمد البري علي رده مخاطبا والد كاتبة رسالة الخطوة الأخيرة والذي قال فيه: إن الأب لابد أن يكون سندا لابنته, فالحقيقة أنني حين عانيت مع أبي الأمرين للحصول علي موافقته علي الطلاق, افتقدت من يحدثه هذا الحديث الرائع. ومن واقع ما عشته أقول لها: أنت من تكتوين بالجمر وحدك, وتعانين المر بمفردك, فيا صغيرتي استعيني علي الدنيا بالله الواحد القهار.. واعلمي أن رزقك ورزق أبنائك في السماء, ولا تتعجبي لتقصير زوجك في حق أبنائه, فهذا هو حال الناس عند الخصام, وسيعود يوما للبحث عن أولاده لأنه الأحوج لغفرانهم قبل أن يلقي الله.أما عن والديك فأخشي عليهما من تأنيب الضمير, وكوني علي يقين من أنهما لا ينامان الليل, وهما إذا كانا اليوم يبحثان عن الناس, فسوف يلجآن إليك غدا طلبا للغفران, وأخشي أن يصعب عليك تلبية طلبهما. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: كان الواجب علي أبيك حين ذهبت إليه بعد إنجابك طفلك الأول تشكين عدم توافقك مع زوجك, أن يحاول إصلاح ما بينكما من خلافات, فإذا استطاع ذلك كان خيرا لكما, وإذا وجد عناء ومكابرة من زوجك سعي إلي تسريحك منه بإحسان نزولا علي رغبتك باعتبار أنك أدري بحياتك, وبقدرتك علي تحمل سلبيات زوجك, لكنه ألقي بمتاعبك جانبا, مركزا اهتمامه علي نظرة الناس إليك لو انفصلت عنه, ومتصورا أنك سوف تتأقلمين علي حياتك معه بمرور الأيام, فكتمت أحزانك, وتقوقعت علي نفسك دون أن تجدي دواء شافيا ينجيك من حياتك الكئيبة. والحقيقة أنني لا أعفي أباك من الخطأ الذي ارتكبه في حقك, إذ أنه اكتفي بإسداء نصائحه لك دون أن يتحرك لمواجهة زوجك بحماقاته معك, ومع ذلك فإنك أخطأت كثيرا عندما اعترف أبوك وهو علي فراش الموت بأنه قد جانبه الصواب في ضغطه عليك للاستمرار مع رجل لا يقدرك, ولا يقيم وزنا لآرائك وأفكارك, فلقد قابلت ندمه بالتجاهل, وطلبه منك السماح والغفران بالعند والمكابرة, وما كان لمثلك أن تفعل هذا, بل كان يجب أن تسارعي إلي تقبيله, والتهدئة من روعه, فهو لم يقصد إلا مساعدتك, ولكن كل إنسان يتصرف وفقا لما يتراءي له من حلول يعتقد أنها الأفضل, حتي وإن لم تكن كذلك. وأتصور أن إيمانك بالله هو الذي سيدفعك إلي طلب العفو والمغفرة له, والسعي إلي التواصل مع أمك, فالإيمان هو الذي يحرر الإنسان من الحزن والقلق, وهو مفتاح وسر السعادة والقوة التي تقف وراء كل نجاح ماديا كان أو معنويا, ومن يؤمن بالله يهد قلبه, والله بكل شيء عليم. وأجدني أردد مع الشاعر بدر شاكر السياب قوله:
الحمد لله مهما استطال البلاء..ومهما استبد بقلبي الألم
فاحمدي ربك, فما تعانينه من آلام نفسية أخف كثيرا مما يكابدنه غيرك من أزواجهن من متاعب, ومع ذلك يصبرن ويتحملن في سبيل الفوز برضا الله سبحانه وتعالي, وليكن التسامح هو الجسر الذي تتقربين به إليه عز وجل, فنحن جميعا ضعفاء, ولدينا أخطاء, والأفضل دائما هو أن يغفر كل منا للآخر هفواته. وإذا كان أبناؤك ياسيدتي قد تزوجوا وصار لكل منهم بيته وأسرته, فإنه باستطاعتك تبادل الزيارات معهم والاتصال الدائم بهم, وما تبقي من عمر يجب أن تستثمريه الاستثمار الأمثل بطاعة الله, والإخلاص في عبادته, والتجاوز عن أخطاء الآخرين وإساءاتهم, والتسليم دائما بأنه لا راد لقضاء الله وقدره, وعليك أن تثقي في أنه سبحانه وتعالي سوف يثيبك من نعمه ظاهرة وباطنة, وهو علي كل شيء قدير.