بدأوا الطريق.. دقت ساعة 25 يناير في الميدان.. فانتفض التاريخ ليقرأ الفاتحة علي أرواحهم.. غرسوا بذور الثورة في أرض النظام السابق.. فسقطت الثمار في ميدان المستقبل.. آمنوا أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.. اقتنعوا بأن الصمت في أحيان كثيرة يعني تحالف مع الهزيمة.. تقدموا الصفوف.. ولم يحملوا سلاحا ولم يقودوا دبابة, ولكنهم نجحوا في إفساح الطريق.. انحازوا بإخلاص للاغلبية الكادحة في القاع.. قالوا لا.. عندما كان آخرون يبصمون بالعشرة نعم.. دفعوا الثمن عندما كان آخرون يحصدون المغانم.. عرفوا أن الوطن مقطوعة إخلاص وصدق وأمانة.. فعزفوا نشيد المعارضة.. في حياتهم دخلوا معارك مع رأس النظام ورجاله.. فاحتفلوا بالانتصار في مماتهم.. لم يكن معهم الجاه والسلطة والثروة.. لكنهم راهنوا علي أن صوت الحق هو الاعلي دائما.. قادوا المظاهرات, والاحتجاجات, والاعتصامات, دخلوا السجون.. لم ترتعش أياديهم لحظة.. ولم تهتز ضمائرهم, ولم تضعف عقيدتهم أمام أية صفقات أو إغواءات.. هؤلاء منهم الإسلامي.. اليساري.. الليبرالي.. والوسطي.. هؤلاء ومثلهم الكثيرون, أقلامهم.. وأصواتهم مهدت الطريق.. وعندما حانت لحظة النضوج.. لم يسعفهم القدر من تذوق طعم الثمار.. ماتوا جهادا وكفاحا ونضالا من اجل الوطن فإستحقوا لقب شهداء بدأوا الطريق... د.أحمد عبد الله رزة .. أيقونة الجيل أحب الفقراء حتي الموت.. كاريزما فرضت نفسها منذ التحاقه بالعمل السياسي.. فصار له تأثير عندما يتحدث وعندما يصمت.. مجرد ذكر اسمه يثير كوامن الشجن النضالي داخل جيل بأكمله.. الدكتور أحمد عبدالله رزة.. مناضل شديد التمرد علي الواقع.. منضبطا في الالتزام بتحقيق أهدافه.. آمن مبكرا بمفهوم الكرامة.. فألهب مشاعر الحركة الطلابية.. سجل التاريخ هزيمة5 يونيو.1967. فبدأت ميوله السياسية تتشكل.. عرف طريقه لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. فوضع الديمقراطية في مقدمة المطالب. نصبته الحركة الطلابية.. مايسترو التظاهر حول محور تطهير الأرض فانصاع له قادة الطلبة وذهبوا لمحاصرة منزل السادات علي نيل الجيزة.. بدأ رجال الرئيس مفاوضات مع رموز الحركة, فرد السادات في خطاب شهير: أنا مقعدش مع رزة!( وهنا السادات كان يسخر من الاسم, ففي ذلك الوقت لم يكن أحمد عبدالله يعرف نفسه باسم رزة).. حاول النظام تضييق الخناق عليه.. فحرموه من تولي أي مهام أو حتي الالتحاق بمؤسسات الدولة.. عندما فكر في دخول مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية, كان السادات قد حذر هيكل من حدوث ذلك.. لم يستسلم للقهر والاستبداد.. فامتلأ الميدان بجيل يؤمن بقضيته.. ومواهب تصنع الحماس.. فكتب الشاعر العظيم أمل دنقل الكعكة الحجرية.. ودوي صوت الشيخ إمام كل ما تهل البشاير من يناير كل عام.. يدخل النور الزنازين يطرد الخوف والظلام.. يا نسيم السجن ميل عالعتب وارمي السلام.. زهر النوار وعشش في الزنازن الحمام.. مع شعاع هذه الأجواء خاض انتخابات الاتحاد الاشتراكي عام1971 بحي عين الصيرة فحقق فوزا مفرحا علي مرشح الضباط الأحرار مصطفي كامل مراد.. شعر نظام السادات بخطر يحمل توقيع رزة.. فوضعوه المتهم رقم(1) في المظاهرات الشهيرة عام.1972. دارت رحي حرب.1973. لكنه قرر الصمود.. ووهب نفسه راهبا في قلاية الوطن.. إعتبرته القوي السياسية عصفورا يغرد في رحاب البحث عن الديمقراطية وكرامة المواطن المصري.. أظلمت في وجهه السبل العلمية داخل وطنه فراح يبحث عام1974 عن النور في عاصمة الضباب لندن.. لم ينقطع الأمل بداخله من استكمال مسيرة السبعينيات.. وحصل علي الدكتوراة في الحركات الطلابية من جامعة كمبريدج.. فبدأ يلتقط أنفاسه العلمية.. عشر سنوات قضاها وأسرته بحثا عن قيمة العلم ولوعة لقمة العيش هناك, ولكن لم يسقط سهوا من ذاكرته أهالي عين الصيرة الكادحين, فكان يوفر من قوت يومه ليرسل إليهم قسطا مما يحتاجون.. عاد مسلحا بالدكتوراه عام1984 ففوجئ بأن تغييرات جذرية رسمت ملامح جديدة علي المجتمع.. أصابته الصدمة.. فحاول الانتصار علي لحظة اليأس.. بحث عن طاقة نور سياسية فانضم لحزب التجمع عام.1985. طبيعته الكاريزمية المتمردة.. المسلحة بالعلم لم تلتق مع أفكار وعقول الحرس القديم بالحزب.. وبعد4 أشهر فقط وجد نفسه مضطرا للإنسحاب بكتابة الإستقالة.. فكر في الاقتراب من حقوق الإنسان.. فلم يصمد كثيرا, واعتبره مسرحا للصراعات السياسية وليس للدفاع عن المواطن.. في عمله جمع بين ثورية المتمرد.. وموضوعية الباحث الجاد.. بداخله قلب مخلص وابن وفي لوالديه وخاصة والدته أم أحمد.. حاول أن يتسلق جبال الإهمال التي تحيط بجدران عين الصيرة.. فبدأ بمسح سواد الورش من فوق جباه الاطفال الابرياء.. ووضع قضية عمالة الاطفال في مقدمة اهتماماته.. حلم بالقضاء علي الأمية داخل عقول الكادحين من مختلف الأعمار وفي مقدمتهم الشباب فقرر تأسيس مركز الجيل للتأهيل.. لأنه كان مختلفا.. كانت قراراته أيضا مختلفة.. قرر العزلة بعيدا عن المشهد.. فلم يصمد أمام المتمرد الكاسر بداخله وسرعان ما عاد ليكون أول من فتح ملف بيزنس علاء مبارك وظاهرة تقاطعه مع كل مشروعات البلاد.. كلما سئل ماذا لو حدث التوريث ؟! كانت إجابته واحدة علي جثتي.. كان ماهرا في صناعة اقصي درجات الصخب في هدوء شديد.. يدخل معارك سياسية مع خصومه لكنه كان يحترم فكرة الاختلاف.. هو أيقونة جيل.. وصفه د.هاني عنان بأنه فتي عصي علي الترويض.. جواد جامح لم يستطع احد كبح جماحه.. جامحا في كل شئ, في حواراته.. في انفعالاته.. في مثاليته النادرة.. في حب مصر.. أما افكاره فكانت الاكثر منطقية وعقلانية وجرأة.. في ذاكرة المفكرين له ملامح خاصة وصفها الدكتور أحمد كمال أبو المجد الشاهد علي مفاوضات السادات مع الحركة الطلابية: بأنه بركان من الثورة, لا يعرف السكون.. طوفان من التمرد بين مواهب الزعماء وإخلاص الصوفيه.. وخلق الثوار الذين يسعون إلي تحريك الزمن وتغيير الواقع واستعجال ساعة النصر والخلاص.. لاحت في الأفق.. لحظة غروب العمر.. فراح خيال المناضل الوسيم.. ممشوق القوام.. مفوه اللسان.. يتجه صوب البرلمان.. ظنا بأنه سيكون أقوي وأقدر علي تحقيق مصالح الكادحين من أبناء الحي, اتخذ قرار الترشح فهمست في أذنيه ابنته بشري من مواليد6 أكتوبر1981 نفس يوم اغتيال الرئيس السادات: لا يا بابا.. بلاش إنتخابات.. دي محتاجه فلوس ودعاية.. وكلها تزوير ورشاوي.. فإبتسم الاب ساخرا ولم يتراجع عن فكرته.. وخاض المعركة عن دائرة مصر القديمة برمز العصا, ليذكر التاريخ أن المتهم رقم(1) عام1972 هو المرشح رقم26 عام.2005. اعتمدت حملته الانتخابية علي تبرعات الأصدقاء وأبناء الجيل الصادقين معه والمخلصين لتجربته.. لكنه فوجئ بأن التاريخ لا يشفع له عند صناديق الاقتراع, وأن أبناء دائرته الذين افني عمره من أجلهم خذلوه لصالح منافسه ليكتشف أنه تعامل بنقاء مع مجتمع مشوه سياسيا.. خسر الانتخابات.. فاستعد للرحيل من الحياة بأكملها وكأن القدر كان يؤمن أيضا بمشروعه.. فقد اختار له الرحيل يوم5 يونيو وهو نفس يوم ميلاد مشروعه السياسي.. فيكتب د.حسام عيسي: ذلك هو زمن الموت موت كل الاحلام وداعا أيها الشاب الجميل...