لقد آثرت أن أبدا هذا المقال بهذا المجاز المشتق من القرآن الكريم؛ والذى وصف الملك (يعتقد ضمنيًا أنه من قراصنة البحار) بأنه يأخذ كل سفينة غصبا. ويحضر هذا المجاز قويا كلما أطلت النظر فى سلوكيات تلك الشرذمة القليلة التى تروع الآمنين من البشر، وتستبيح دم من وهبوا أنفسهم للدفاع عن الأرض والبشر من قوات الجيش والشرطة. فلا شك فى أن هؤلاء القراصنة لا دين لهم، رغم استخدامهم الدين فى تبرير سلوكهم المشئوم؛ ولاشك أيضا فى أنهم لا ينتمون إلى أى شكل من أشكال الفكر، حتى الأكثر شذوذًا منه. إنهم شرذمة تريد أن تأخذ المجتمع غصبًا، وهم بذلك أشبه بالقراصنة أو قطاع الطرق الذين يستملكون أرزاق غيرهم ويسعون فى الأرض فسادًا، ويعتريهم اعتقاد زائف بأنهم الأفضل والأقوى والأتقى ومن حقهم استملاك المجتمعات ونهبها. ولا أود هنا أن أسترسل فى وصف هؤلاء البشر الشواذ، وطرائقهم فى ترويع العالم وتخويف البشر، ولا للأساليب التى يستخدمها قادتهم وروادهم فى السعى البطئ نحو نهب الأرض، وتنصيب أنفسهم أئمة وأمراء باسم الدين، وبث الادعاءات الأسطورية التى لا يمكن أن يقوم عليها برهان. كما إننى لن استفيض فى الأساليب التى يجب أن يواجه المجتمع بها هذه المزاعم الإرهابية، والتى يأتى على رأسها استخدام القوة بكل أنواعها (الصلبة وغير الصلبة). إن ما أود الاستفاضة فيه هو ضرورة تأمل رد فعل المجتمع إزاء أحداث القتل الإرهابى هذه، ومقارنته برد فعل هذا المجتمع عندما حاولت جماعة من هؤلاء أن يأخذوا المجتمع غصباً فى طريق لا يرضى عنه الناس، ففى الحالتين عبر الشعب عن رفضه بشكل قاطع، وأكد أن استشعاره للخطر والعمل على درئه أقوى بكثير مما تملكه اعتى أجهزة الرصد والتحليل. لقد انتفض الشعب فى 30 يونيو لكى يستعيد ما سلب، عندما شعر أن ثمة مؤامرة على تمزيق روحه الكلية أو إراداته الجمعية، تلك الروح التى تحفظ له استقراره واستمراره على هذه الأرض المنبسطة عبر آلاف السنين. ولقد كانت غضبة الشعب حينئذ قوية وشاملة شارك فيها القاصى والداني، الكبير والصغير، الرجل والمرأة، بحيث يمكن أن نقول فعلاً إنها ثورة للحفاظ على روح المجتمع متماسكة وإرادته صلبة. ونستشعر نفس الشيء ونحن نتأمل رد فعل المجتمع إزاء أحداث الإرهاب. لقد وقف الناس فى كل مكان حداداً على الشهداء، فى الجامعات والمدارس، فى المساجد والكنائس، فى قاعات الاجتماعات وحشود المؤتمرات، كما عبر المجتمع عن غضبه الشديد بعبارات سرت عبر أدوات التواصل الاجتماعي، وسرت عبر أثير الإذاعة، وشاشات التلفاز، لا ترفع صوت الغضب والشجب والرفض فقط، بل تؤكد صمود المجتمع ووقوفه ضد أى شكل من أشكال الانكسار. وكل ذلك يتم بمشاعر مفعمة بالغضب والوطنية والتوحد الكلى مع روح الجماعة. ولقد أخذت شخصياً بمشهد هذا المربى الفاضل وهو يطلب من تلاميذ صغار أن يقفوا حداداً ويصيح فيهم بوطنية مفعمة بالمشاعر فيقول: فلنقف حدادًا على روح الشهداء، «انتباه»!!! وعندما نتأمل المشهدين (أقصد هذا الخروج الكبير، ضد الجماعة التى أرادت أن تأخذ المجتمع غصباً فى طريق التفكيك والانقسام، وضد الذيول الإرهابية ذاتها أو أولى القربة منها)، عندما نتأمل هذين المشهدين نعاود قراءة تاريخ مصر وتاريخ شعبها؛ ونستلهم من هذا التاريخ درساً مهماً يجب أن يكتب فى ضمائرنا بوضوح، وهو أن أحداً لا يستطيع أن يأخذ هذا الشعب بعيداً عن هدفه العام فى العيش المشترك، ولا يستطيع أحد أن يأخذه غصباً نحو الحياد عن هذا الهدف العام. إن هذا الشعب الذى خرج فلاحه الفصيح منذ آلاف السنين يطالب الحاكم بأن يقيم العدل وأن يعدل الميزان، والذى أسس لفجر الضمير البشرى بوضعه للأسس العامة للأخلاق والثواب والعقاب، هذا الشعب يحتفظ فى ذاته بسمت وجوده وصبغة استمراره؛ أعنى ضميره الجمعي، وروحه العامة. وهذان مفهومان شائعان فى فهم الذات الكلية للمجتمع. فالضمير الجمعى يمثل قوة رابطة موجودة تعتمد على الاشتراك العام فى المعتقدات والعادات والمعايير الأخلاقية العامة. ومنه تنبت روح الجماعة التى تشير إلى قوة الجماعة فى ربطها لأعضائها برباط واحد قوي، رغم اختلاف رغباتهم واهتماماتهم الشخصية. ويشكل الضمير المصرى الجمعى والروح المصرية الكلية فى تفاعلهما نواة صلبة تقف خلف هذا التنوع الهائل فى الحياة المعاصرة. فثمة فئات متنوعة من البشر، وثمة مجتمعات تمتد عبر السهل فى الريف والحضر، وأخرى فى البادية، وثمة مهن متعددة وأساليب حياة متنوعة، وطرائق مختلفة فى العيش. ولكن كل هذا التنوع يرتكن إلى قلب واحد، ضمير جمعى واحد وروح مصرية واحدة. وهذه النواة الصلبة قد لا يراها أحد لأنها تكمن هناك فى البنية العميقة للمجتمع والثقافة، وهى تطل برأسها دائماً فى أوقات الخطر والأزمات، وتبقى دائماً حارسة للتجانس الروحى والأخلاقى والاستقرار والاستمرار. ولاشك أن قراصنة الإرهاب ومن يشاركونهم فى مراميهم وأهدافهم من الدول أو الأجهزة الاستخباراتية، يهدفون إلى زعزعة ضمير الأمة الحي، وروحها النابضة القوية. ولكن ما لا يعرفه هؤلاء وأولئك هو أن هذا الضمير وتلك الروح هما حائط الصد القوى ضد هذه المرامى والأهداف، وأن صمود المجتمع المصرى ليس صموداً عادياً بل هو صمود قوى خفى يكمن قى ضمير الأمة وروحها الجمعية التى تتجلى فى ردود فعل بسيطة أحياناً وقوية عارمة فى أحيان أخري، فقط عندما يتعرض هذا الضمير للاهتزاز أو تتعرض هذه الروح الكلية للتهديد. وأعود فى نهاية المقال لكى أكرر ما بدأت به، بأن المصريين لن يسمحوا أبدا بأن يؤخذون غصباً، وأن ضميرهم الجمعى وروحهم الجمعية تضربان فى أعماق التاريخ، وفى أعماق الذوات البشرية التى تعيش على هذه الأرض. صحيح أن بعض المظاهر فى الخارج قد تشى بخلاف ذلك، وقد تغرى الآخرين بمظاهر من الفهم مغلوطة وساذجة، ولكن ثمة أشياء هناك كامنة لا يراها أحد، تشكل أساساً متيناً للاستقرار والاستمرار تلك هى روح المجتمع وضميره الجمعي. فهل يدرك قادة الإرهاب ومن ورائهم هذه الحقيقة؟ هل يدركون أننا لسنا مساكين نعمل بالبحر فتؤخذ سففنا غصباً؟ لمزيد من مقالات د.أحمد زايد