لا تندهش مما تراه أو تسمعه، فما يحدث أمامك ليس إلا تفاصيل، بعضها سوف يذهب مثلما ذهب استفتاء الأكراد على الاستقلال، وبعضها ربما يستقر ويبقى مثل الإعلان الأمريكى الروسى عن الحفاظ على الدولة السورية وتكاملها الإقليمي. وأيا كان الأمر بين الذهاب والبقاء، فعملية التغيير التى بدأت فى مطلع العقد الحالى بما سمى ثورات «الربيع العربي» لم تنته بعد. صحيح أنه مهد الطريق إلى ردة رجعية فى تاريخ المنطقة بسيطرة تيارات دينية سياسية إرهابية على دول، وحروب أهلية فى دول أخري، وقلق حاد فى دول ثالثة، إلا أنه خلق سلسلة من التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا يمكن وقفها من ناحية أخري. ما كان موجودا حتى نهاية العقد الأول من القرن لم يعد ممكنا استمراره، أما ما سوف يأتى بعده فهذا ما لم يعلمه أحد، ولكن التفاعلات لا تتوقف ليس لأننا لا نعلم، ولكن لأنه كما يحدث فى الكيمياء تمضى فى سبيلها يعجل منها العدوى المستمرة بالدعوة للتغيير، ووسائل للتكنولوجيا لا تدع أمرا فى حاله. يوم 4 نوفمبر الحالى سوف يعرف فى التاريخ بأنه اليوم الذى وصل فيه التغيير إلى المملكة العربية السعودية، وهو كما حدث فى كل الأحوال السابقة كان مدهشا بقدر ما كان صادما. جاءت الدهشة لأننا فوجئنا بما كان متوقعا منذ زمن، فلم يكن مفاجئا على سبيل المثال أن 70% من السعوديين هم من الشباب بين سن 15 و35، أو أن هناك 200 ألف طالب سعودى يذهبون سنويا إلى الغرب ويعود منهم 35 ألفا كل عام، ونتصور أن السعودية سوف تبقى على حالها الذى نعرفه. ولم يكن مفاجئا أنه من قلب هذا الجيل جاء الأمير محمد بن سلمان، ومعه مواقف وآراء وبرامج لم تألفها المملكة، ولا كان متحمسا لها من انتموا إلى أجيال أخري. فى كل الأحوال كانت اللهجة غير اللهجة واللغة غير اللغة، وكان لابد من لحظة حسم عندما جاءت كانت المفاجأة رغم كل شيء. الآن وبعد أسبوعين من الحدث، ساعة كتابة هذا المقال، فإن المفاجأة هى أن الأمور تبدو مستقرة، وتسير سيرها نحو إتمام التغيير. وإذا كان «النفري» قد قال إنه لتمام الظهور لا بد من غياب؛ فإنه فى السعودية لتمام التغيير فإن الأحوال كان لابد لها أن تكون كما كانت فى السعودية عصية على أفكار المدنية والحداثة، بما هو موجود من سلفية وتقاليد وأعراف تنتمى إلى قرون ماضية بعيدة وسط آلات وأدوات القرن الحادى والعشرين. أيا كانت المفاجأة أو الصدمة، أو حتى الاتهامات المتطايرة هنا أو هناك، فإن هناك موجة كبيرة قادمة من التغيير شاهدنا بعضا منها تخص التطرف والمرأة والاقتصاد والتعامل مع المتغيرات الإقليمية الكثيرة، وكلها تضع نفسها فى مركبة المدنية والحداثة. أن تتغير السعودية على هذا النحو هو الانقلاب المعاكس لما جرى فى إيران عام 1979 حينما انتقلت دولة خاضت شوطا طويلا فى الحداثة إلى عالم قديم يبحث عن إمام غائب، ويعطى دفعة طاغية لكل تيارات الأصولية والتطرف والإرهاب. مثل ذلك سوف يعنى أمرين: الأول أن الصدام الذى كان متوقعا بين «السنة» و«الشيعة» ممثلا فى السعودية وإيران، سوف يكون صداما من نوع آخر بين المدنية والحداثة من ناحية، ودولة ولاية الفقيه من ناحية أخري. والثانى أن تيار التحديث الذى يجرى فى الإمارات مندفعا، وفى مصر مترددا، وفى تونس والمغرب والأردن بسرعات مختلفة، سوف يجد قوة دافعة جديدة ربما تجد أصداء لها فى المنطقة فى يوم قادم. يبقى أن التغيير دائما ليس سهلا، وعندما يحدث فى دولة مثل السعودية، فإن الصعوبات والعقبات سوف تكون كبيرة. درة التاج فى برنامج الأمير محمد بن سلمان الإصلاحى هو طرح شركة أرامكو فى الأسواق الدولية خلال العام القادم 2018. فى الوقت الراهن فإن الشركة يجرى تجهيزها للطرح، وفى الطريق إلى تحديد سعر السهم فإن الشركة وقعت عقودا قدرها 4.5 مليار دولار للقيام بأعمال هندسية وجرت الإشارة إلى أنها سوف تطرح فى السوق السعودية (تداول) وفى بورصات نيويورك ولندن وطوكيو وهونج كونج. الفكرة تبدو بسيطة فى جوهرها وهى أن يذهب الاقتصاد السعودى إلى ما بعد النفط والغاز؛ ولكنها أيضا معقدة إلى الدرجة التى جعلتها تقال طوال العقود الأربعة الماضية، ولكن أحدا لم يجرؤ على تنفيذها. فقط الإمارات بين الدول النفطية هى التى جعلت نصيب إيراداتها من النفط يقل عن 30% من ناتجها المحلى الإجمالي. فى السعودية وفيما يبدو لا يوجد سبيل آخر، والطريقة التى جرى بها التغيير لن يمكن تبريرها بغير أن الأفق فيه ما هو أكثر من تداول السلطة وبقدر ما أن الشريحة الاجتماعية للشباب تبدو متحمسة، إلا أنها أيضا متعجلة، وعينها ليس فقط على الاقتصاد والتكنولوجيا وإنما على السياسة أيضا. وبالتأكيد سوف تكون هناك تسويات ضرورية مع قوى كثيرة، ولكنها لا يجب ولا ينبغى لها أن تخل بجوهر المحاولة. وفى بعض الأحيان فإن العقبات سوف تأتى من حيث لا يحتسب أحد، فرغم أن الرئيس ترامب وأسرته من المتحمسين لوضع شركة آرامكو فى بورصة نيويورك، ووضع مجموعة التفاهمات وخطابات النوايا ومذكرات التفاهم مع السعودية التى بلغ مجموع قيمتها 110 مليارات دولار موضع التطبيق، فإن الشروط الخاصة بالشفافية فى البورصة ربما تعيق الانفتاح الكامل للشركة. والأخطر أن الشركة فى بورصة نيويورك سوف تكون معرضة لتطبيق قانون «جاستا» الذى يسمح برفع قضايا على الحكومة السعودية والسعوديين بتهم التورط فى أحداث 11 سبتمبر الإرهابية. وبالمناسبة فإن ترامب ذاته كان من بين من أيدوا قانون «جاستا» كما فعل كثيرون من الساسة. ولكن هذه عقبات مهما كانت صعوبتها وتعقيداتها فإن جدية الإصلاح والتغيير سوف تخلق حلولا لها. المهم هو أن تستمر قوة الدفع وأن تتعاون قوى التحديث فى المنطقة بأكثر مما يفعل المضادون لها. لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد