وكأن المصريين والعرب ينقصهم المزيد من الحروب والأزمات والكوارث حتى تنفتح عليهم حرب جديدة تنهال على عقولهم وأعينهم فتلتهم البقية الباقية من الأعمدة الأساسية لأخلاقهم وأخلاق عيالهم. حديثنا عن شلال الفيديوهات الفاضحة الذى ينهمر كل ساعة على رءوسنا من مواقع التواصل الاجتماعى حتى بات لسان حالنا -نحن أصحاب العيال- يكاد يصرخ: «يا ناس .. ها نلاقيها منين ولّا منين». بالأمس كانت معركة شيرين والنيل والبلهارسيا.. واليوم فيديو «الظروف» الإباحى إياه.. وقبلها فيديوهات «سيبان اليد»، و«الواوا»، و«ركوب المراجيح».. و«الصعود معًا إلى الروف لوضع النقاط على الحروف».. وما خفى كان أعظم! العيب على من بالضبط.. ولمن بالتحديد نوجّه أصابع الاتهام؟ أغلب الظن أن آخر من يمكن أن نتجه إليهم بأصابع الاتهام هم صانعو تلك الفيديوهات أنفسهم.. فما هم إلا نتاج ظواهر أقوى وأعمّ وأشمل منهم ليست لهم اليد الطولى فى خلقها، وإنما هم منها كشوائب الماء العكر التى تطفو فوق سطح البركة الراكدة الآسنة العطنة فتغطيها. قل لى بصراحة (بينى وبينك!).. ألم تمتد أصابعك ملهوفة ترتعش تبحث عن تلك الفيديوهات على «اليوتيوب» أو «جوجل» لتشاهدها فتعرف ما الحكاية؟ طيب إن لم يكن ذلك كذلك.. فلماذا إذن تلك الملايين من المشاهدات التى يسجلها عدّاد موقع البحث على كل فيديو جديد إباحى جرىء؟ أين الخطأ.. وعلى من تقع المسئولية؟ تستطيع سيادتك طرح العديد من الأسباب - والظروف - التى أدت إلى انتشار الفيديوهات التى على غرار «عندى ظروف» وما شابهها، وعلى رأسها بالتأكيد أنك أمام ثقافة عصر وليس مجرد نزوة وتمضى إلى حال سبيلها، وانظر إن شئت إلى فيديو «ديسباسيتو» الجرىء الذى أحدث ما يشبه الثورة بين شباب وفتيات الدنيا كلها (عدد مشاهداته زاد على المليارى مشاهدة فى أسبوع واحد). ستصرخ وقد تشق الجلباب قائلًا: وإحنا مالنا ومالهم يا عمّ.. إنهم هناك حاجة ونحن حاجة ثانية خالص. لا يا سيدى البيه، أنا لست مع جنابك.. فشبابنا وشبابهم (حِتّة واحدة .. وليسوا مائة حِتّة)، وكلهم يتجرعون ثقافتهم من معين واحد هو العولمة. آه العولمة.. ألم تسمع عن ثقافة العولمة (نسبة إلى العالمية وليس العوالم)؟ هذه واحدة، فأما الثانية.. فهى أنك أمام فجوة هائلة - كدوامة بحر- تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم بين جيلين، فلا الكبار منا (نحن جيل الآباء) قادرون على ردمها، ولا هم (جيل الأبناء) راغبون أصلًا فى تخطيها. وكل من الفريقين مستمسك بأفكاره وتصوراته استمساك الغريق بقشة يحسب أن فيها نجاته. وقد يكون مستساغًا فى هذا الصدد توجيه هذا السؤال الصريح حبتين: هل استفتيتم يا معشر الكبار الرزينين العاقلين بعضًا من شباب هذه الأيام عن رأيهم فى هذا النوع من الفيديوهات فقدرتم وجهة نظرهم دون افتئات أو ضغط أو آراء معلبة سابقة التجهيز؟ هل تعرفون ماذا يقولون فى جلساتهم الخاصة وفى «الشاتنج» الإليكترونى المتداول فيما بينهم؟ لا.. فنحن نكتفى بتحكيم قواعد التفكير التى تربينا عليها قبل عشرات السنين.. وإلا فلماذا تلقى تلك الفيديوهات كل هذا الرواج رغم أنوفنا؟ تلك إذن هى الأولى والثانية.. فما الثالثة؟ آآآآآه.. سندخل أنا وأنت الآن فى المنطقة الساخنة، وهى النظرة للمرأة بشكل عام. إنهم - هؤلاء الصغار العفاريت- لا ينظرون إلى المرأة بحسبانها جوهرة ثمينة يجب الحفاظ عليها من اللمس والخدش وإمعان النظر، بل هى عندهم مجرد كائن حر من حقه أن يرقص ويغنى ويفصح عن مشاعره بكل جرأة، بل وبمنتهى الصخب إذا اقتضت الضرورة. إن المعنى هنا هو أن مفهوم «العيب» لم يعد كما كان فى الماضى.. وبالتالى فإنك إن سألت واحدًا من هؤلاء الشباب عن رأيه فيما يراه فسوف يرد عليك بعدم اهتمام: «عادى». هل تريد الدليل؟ إذن ما قول جنابك فى هؤلاء الصبية الذين لا تتجاوز أعمارهم الثانية أو الثالثة عشرة يخرجون علينا على اليوتيوب متفلسفين منظرين متعبقرين وهم يعلقون على هذه الفيديوهات، فكأنهم خبراء مجربون عالمون بكل شئون النساء الخافية المخفية؟ ثم تعال هنا.. ألست تشاهد الأفلام والمسلسلات والأغنيات المصورة (الكليبات) الوافدة إلينا من الغرب فتجد فيها الكثير مما تقشعر له الأبدان ويجعل وجنتيك تحمرّان خجلًا؟ إن شبابنا «المفاعيص» هؤلاء - إن كنت لا تدرى- تربوا على هذه الأفلام وتلك الفيديوهات منذ نعومة أظافرهم، ومن ثم فإنهم لا يجدون فيها أى غرابة أو خروج عن المألوف، ويحكمون عليها، ليس بمخزون ثقافتك أنت، وإنما بمخزون الثقافات التى تراكمت لديهم هم. ولاحظ هنا أن هذه الفيديوهات هى لشباب يغنى لشباب مثله.. فهل رأيت عجوزًا مثلك يتقصّع فى الطرقات، فيرقص ويغنى؟ قصدك إيه يعنى.. نسيبهم ماشيين على حل شعرهم؟ لا يا سيدنا.. لم نقل - ولن يقول أحد- بذلك أبدًا، وإنما المطلوب أن نسلك مع هؤلاء الشباب سيرة أخرى فى التفاهم. إن الرقابة لا تؤتى أثرها بالكلام المحفوظ والنصح والإكليشيهات العقيمة، وإنما بتقوية ثقافتك الذاتية فى مواجهة الثقافات الوافدة وتقديم القدوة.. فهل نحن قدمنا لهم القدوة؟ طيب.. عينى فى عينك! وما المطلوب بالضبط؟ المطلوب هو إعادة النظر فى الثقافة التى نُعلمها لأبنائنا فى البيوت والمدارس والإعلام والفنون ودور العبادة، وصولًا إلى عودة حميدة إلى الأعمدة الأساسية التى بنيت عليها الشخصية المصرية عبر تاريخها الممتد.. وكفانا وعظًا وإرشادًا وادعاءات فارغة، فكلام الليل المدهون بالزبد (فى التوك شو) يطلع عليه النهار ليسيح.. على رأى المثل الشعبى المعروف. لمزيد من مقالات سمير الشحات