أشعر بالتوتر الشديد وأرغب فى أن تكون هذه المقالة ناصعة ومشعة بمحبة من أكتُب عنها، وعن دورها، وصوتها فى جماله، وألقه، وفتنته التى أثرت فى أجيال وراء آخرى فى مصر، وعالمنا العربي، وأتردد خشية ألا يكون ما أكتبه عنها قادرًا على الوفاء بما أعطته ووزعته على الناس من جمال الصوت، وسلاسة التمثيل، وتعبيرها عن تطلع اجتماعى لسيدات وفتيات عن أشواقهن وذواتهن فى سعيهن لبناء شخصياتهن المستقلة، وتعبيراتهن عن أنفسهن بصراحة ولطف ودلال وأنوثة طاغية ومؤثرة وموحية بخصوصيتهن وصوتهن فى الفضاء العام، ليؤكدن لمجتمعهن وأسرهن، وعشاقهن نحن هنا، متفردات، نبوح بأشواقنا فى وضوح ودلال وجمال وتأدب وذلك عبر صوتها الجميل! أنها «شادية الكلمات» وفق ما قيل إنه وصف عبد الوارث عسر الممثل الكبير والقدير عند سماعه لصوتها وذهب بعضهم أن اسمها جاء محمولاً على وصف هذا الكبير لفتاة جميلة وموهوبة من «الطبقة الوسطى المصرية» المدينية، عندما سمع صوتها الصادح بالحنان والدلال والعشق والحب. ابنة المدينة وعوالمها المفتوحة وتفاعلاتها الكوزموبوليتانية الحرة فى الأفكار والقيم والتعبيرات الصريحة عن الفردية فى طورها التكوينى والتشكيلى لدى فتيات وسيدات الطبقة الوسطى، فى إطار حداثى محمولاً على خصوصية مصرية منفتحة على عوالمها، ولاسيما أوروبا. يمكنك أن تستعيد التراث الغنائى «لشادية الكلمات» ومعه تاريخك الوجدانى الشخصي، وتعبيراتها عن مكنوناتك الدفينة. لست وحدك من تشكلت مشاعره وأحاسيسه وإدراكه للجمال، وإنما أجيال استمعت إلى صوتها الجميل الفاتن والغاوى، ورددت وراءها كلمات الهوى والحب، ومفردات عشق الوطن فى لحظات محنه وهزائمه التاريخية، وظفره وانتصاراته! صوتها ما وراء الصوت، حيث الصبابة والروح الشابة المتوهجة الجسورة فى تعبيراتها الناعمة والرشيقة والمحمولة على القوة والساعية إلى كسر معتقلات الروح والوجدان الذكورية المحافظة، التى أسرت صوت المرأة المصرية وحيويتها وفاعليتها وإبداعها رهينة مواريث قيمية وسوسيو-ثقافية ومحرمات شبه إقطاعية، دثرها بعض الغلاة من رجال الدين بغلالة من الفكر الدينى الوضعى المحافظ، ووظفتها الذكورية السياسية والاجتماعية، فى إعادة إنتاج أدوارها الوظيفية الاجتماعية رهينة فى ظل نظام الأسرة! عندما أطلت بحيويتها المتدفقة، وجمالها الآسر على العيون والآذان فى أفلامها الأولى، سكنت قلوب ومخيلة المصريات، «أيقونة» للجمال الصوتي، والأنثوي، أيًا كانت أدوارها وتمثيلاتها وتعبيراتها «الطبقية» العليا، والوسطى، والفقيرة. أداؤها التمثيلى اتسم بالسلاسة التعبيرية، والتكامل من التعبيرات الجسدية والصوتية والملامح المعبرة عن الموقف التمثيلي، أيًا كان! ثمة حركية تمثيلية إذا جاز التعبير- فى تحولات السيناريو والمشاهد فى كل الشرائط السينمائية التى رادتها وكانت أيقونتها الجاذبة لعشاق الفن السابع! صوتها الجميل/ الشادى الذى شغفت به القلوب، فى نعومة تتجلى فى أهاب حريري، وقوة ونفاذية ساحرة قادرة على تغيير الحالة النفسية والوجدانية لمن يستمع إليها، من الملايين! صوتها ما وراء الصوت، حيث تراكمات من المحظورات، والمحرمات والمكبوتات تحاول كبح عنفوان وعرامة روح شابة حداثية المسعى والتطلعات، إلا أن صوتها يحملُ فى أعطافه التحرر فى ذكاء، ودلال وأنثوية طاغية، وخفر وحياء يتلون ببراعة مع نص الأغنية، ومشاهد «الفيلم» وبنية الرواية والسيناريو والحوار، صحيح أن غالبُ أفلامها، تدور بين حدى التحرر والمحافظة، وبعضها ينطوى على ميلودرامية ساذجة، إلا أن حضورها الفاعل والمشع جاذبُ، ومؤثر. أداءها التمثيلى والسينمائى اتسم ببساطة ذكية، وحيوية طاغية. نستطيع القول أن شادية لعبت دورًا مهمًا، فى صياغة هوية فتيات وسيدات الطبقة الوسطى المدينية، وطموحاتها وتطلعاتها إلى تمثل الحداثة فى بعضُ القيم الجديدة والوافدة من الفضاءات الأوروبية، ومن تمثلاتها فى السينما الأوروبية والأمريكية، ومن تفاعلات القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الأخرى ذ فى زمن الكوزموبوليتانية المصرية الذهبي، حيث التعايش بين أنماط من تعددية القيم الثقافية والاجتماعية والسلوكية. صوتها وأدوارها التمثيلية السينمائية، شكلا التعبيرات والطموح الأنثوى إلى المشاركة الفعالة فى المجال العام، والتعليم والعمل والمساواة فى ظل ذكورية سياسية ودينية واجتماعية مهيمنة. دور شادية الاجتماعى مع نظيرات لها فى تاريخ السينما المصرية- تمثل فى المساهمة فى تشكيل هوية المرأة المدينية من الطبعة الوسطى، فى الحق فى الحب، واختيار شريك الحياة دون قسر أو إرغام أبوى «بطريركي» وفى التعبير عن المشاعر الحقيقية دون خوف. هوية منفتحة على عالمها، تبدو فى نظام الزى وخطوط الموضة وجمالياتها دون إسراف أو بذخ أو مغالاة! تستطيع أن تقارن بينها وبين فاتن حمامة التى شكلت بعضا من تصورات نساء البرجوازية العليا لأنفسهن، فى نظام الزي، وفى نمط السلوك المتحفظ واللغة المتقشفة، والتعبيرات المحسوبة والمنضبطة فى الخطاب والسلوك. شادية خطابها الشفاهى أكثر حيوية وتلقائية وتعبيرية عن المشاعر، والرغبة فى تجاوز القيود والضوابط التقليدية، دونما خوف أو وجلَّ أو تردد، من ثم استطاعت التأثير فى شرائح اجتماعية للطبقة الوسطى، ونزوعها للتعليم والعمل والتفاعل الاجتماعى فى المجال العام، وتحرير المجال الخاص من ضوابطه ونواهيه التقليدية. علامتان بارزتان فى تاريخ السينما المصرية، وربما الوحيدة التى استطاعت أن تخترق الحواجز الطبقية الصارمة فى بعض الأحيان، والسائلة فى أحيان أخرى هى زينات صدقى ذات الموهبة الاستثنائية الساطعة، والتى ساهمت فى إشاعة البهجة، وتوليد الضحكات والبسمات، وتوزيع المحبة على كافة «الطبقات» والشرائح الاجتماعية، بلا تكلف وبتلقائية نادرة ومعجزة، ومن ثم نستطيع القول انها جزء أساسى فى تشكيلات هوية المرأة المصرية، بل والهوية المصرية، رغم تعبيراتها عن أغلبية الفئات الشعبية، وتجاوزها لكافة الشرائح من خلال موهبتها الفذة، وقدراتها التمثيلية المبدعة على إشاعة السعادة وتوزيعها على المصريين جميعًا، إنها أيقونة الأيقونات قاطبة. لم يكن محضُ مطربات، أو ممثلات موهوبات فقط، وإنما أحد مصادر الحيوية الثقافية والاجتماعية والهوياتية، المصرية ومازلن. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح