يخلط البعض بين الحداثة، كرؤية وصياغة، وبين القالب الذى يصب فيه المبدع رؤيته الفنية وصياغته لتلك الرؤية. على سبيل المثال، حركات التحديث فى الشعر العربى ارتبطت منذ ثلاثينيات القرن الماضى بتطوير شكليّ بدأ بنمط القوافي، ثم امتد إلى الإيقاع الشعرى نفسه. فمدرسة أبوللو فى مصر وشعراء المهجر حرروا القصيدة العمودية من وحدة القافية، وسادت مدرستهم حتى أواخر الأربعينيات، إلى أن وثب شعراء مرحلة التحرر الوطنى فى الخمسينيات وثبتهم الشعرية الكبرى وحرروا قصيدتهم من النمط الموسيقى الجامد، مع الاحتفاظ بوحدة الإيقاع (أو التفعيلة)، فحطموا عمود الشعر العربى فى ثورة موازية لثورات شعوبهم، وجعلوا طول كل سطر شعرى ووجود قافية من عدمه خياراً مفتوحاً للشاعر مع الاحتفاظ بوجود إيقاع. ووازى تلك الثورة نشوء قصيدة النثر، لكنها ظلت هامشاً لمتن التفعيلة حتى تسعينيات القرن الماضى حين انفجر نبعها فى مصر، وأنتج نماذج كثيرة جيدة، وغزارة من حيث الكم تصل إلى الغلبة على الأشكال الأخري، خاصة فى شعر الفصحي، حيث مازالت القصيدة العامية التى تعتمد على الإيقاع أو التفعيلة قوية ومسيطرة. خلال كل هذه التطورات والطفرات والثورات، فيما يقترب من قرن من الزمان، ظل بعض الشعراء يكتبون القصيدة العمودية، وفى شكلها القديم، حيث القافية الواحدة والبيت الشعرى المكون من شطرتين. وفى معظم الأحوال، كانت صياغة هذه القصائد العمودية «تقليدية»، بمعنى الاحتفاظ بالمعالم النمطية للتراث، وبمعنى «تقليد» أى محاكاة النماذج القديمة وشعراء التراث من حيث اللغة (من مفردات وتراكيب وصياغة)، ومن حيث الأفكار والرؤى والصور، إلى جانب القالب بالطبع. وكان من الطبيعى أن تسود رؤية نقدية بين منظرى ومتذوقى الشعر المحدثين والحداثيين تعلن وتعمم افتقار هؤلاء للموهبة والأصالة والقدرة على الإبداع والتجديد. وفى أغلب الأحيان، جاءت هذه الرؤية النقدية صادقة؛ إلا أنها ظلمت البعض، ممن زاوجوا بين القالب الشعرى التراثيّ وبين الرؤى والصور والتراكيب والصياغات الشعرية الحديثة، التى تجمع بين الأصالة الفردية والحداثة الشعرية. ومن هؤلاء، الشاعر أحمد غراب. وقد قرأت بعض نماذج هذا الشاعر منذ ثمانينيات القرن الماضى إلى اليوم، وكلها أو جُلها قد صُبت فى القالب العمودى الكلاسيكي، حيث وحدة القافية وتماثل وحدات الإيقاع فى كل الأبيات والشطرات الشعرية، إلا أن الصياغات والصور حداثية، وكثيراً ما تكون سيريالية غرائبية. وديوانه الأخير «المرايا»، الصادر عن دار «يسطرون»، خير مثال على ذلك. وسوف أختار نصاً واحداً للتدليل على مذهب تذهب إليه كل القصائد تقريباً، سواء فى هذا الديوان، أو ما سبقه من أعمال الشاعر، وهو المذهب الحداثي. وقد اخترت قصيدة «وشم على ذراع حواء» لا لأدلل على حداثة الصياغة فحسب، بل لأن حواء هى الهاجس الغالب المسيطر على وجدان الشاعر ونصوصه. يقول أحمد غراب فى بعض أبيات قصيدته الطويلة: أنا القصيدة فى أكفانها انتفضت/ تصيح: ما قتلتنى غير أبياتي.. بعض النساء طواغيت فكيف أنا/ وحدى الذى قدم القربان اللاَّتِ«.. وكيف صرتُ بوجهٍ لست أعرفُهُ/ يطل لى فى المرايا سِفر عاهاتِ.. المرأة (العطر) طارت من رُبَى رئتي/ والمرأة (الماء) مرَّت من مسامّاتي والمرأة (الصيف) جاءت وهى مُشمِسةٌ/ وغادرتنى وطقسى عاصف شاتي.. أحمد غراب شاعر كلاسيكيّ، لا من حيث عمودية القالب فقط، ولكن من حيث بعض أسرار الأسلوب القديم، مثل وحدة البيت موضوعاً وصياغة واستقلاله النسبيّ؛ إلا أن كلاسيكيته تمازجها جرأة حداثية فى الصورة والصياغة تثبت للمتأمل، المتمهل قبل إصدار الأحكام والتعميمات، أنه رغم ارتباط الحداثة عموماً ببعض الأشكال التى تنشأ ثم تسود مع تطور المدارس الشعرية، فإنه دوماً هناك الاستثناء الذى يذكرنا بأن الشاعر أهم من الشكل، وما دام الشاعر يتمتع بالأصالة والقدرة على الابتكار والابتداع، فإن القالب الكلاسيكى من الممكن أن يحتوى على قصيدة حداثية. وبالتأكيد أحمد غراب أحد تلك الاستثناءات القليلة، ويقف مع عبد الله البردونى وأحمد بخيت، وآخرون يعدون على أصابع اليد الواحدة، فى صف الأصالة والحداثة والابتكار والعلاقة الجدلية بين القالب والمحتوي؛ بين الكأس القديمة والراح الجديدة، على عكس ما نجد فى بعض الأحيان، حيث الكأس حديثة الطراز والمشروب مشروب من قبل! ومذاقه عتيق لا معتق، معروف مألوف ومكرر!. لمزيد من مقالات بهاء جاهين