صحيح أن إسبانيا تواجه هذه الأيام أسوأ أزمة دستورية منذ الانقلاب الفاشل فى عام 1981، مدفوعة بالاتجاه الشعبوى المتنامى فى أوروبا على غرار الطريقة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك الإطار الرومانسى الذى يحيط عادة بالأزمات فى أى دولة، والذى يتمركز حول فكرة "تقرير المصير" هو الفخ المشترك فى كل تلك الحالات. وتحويل الوضع إلى ذلك الفيلم الدرامى الذى تدور أحداثه حول الصراع بين "الظالمين الطغاة" فى مواجهة "المقاتلين من أجل الحرية" هو دائما أمر جذاب للغاية. بهذا الشكل نجح قادة كاتالونيا فى الترويج لخطتهم أمام المجتمع الدولى لتبرير إجراء استفتاء انفصال الإقليم اليوم – الأحد – لدرجة وصلت إلى حد الاستعانة بمصطلحات تشبههم بنضال نيلسون مانديلا ضد الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا! وعلى الرغم من هذه الصورة التى يحاول أبناء كاتالونيا الترويج لها، فإنه لا تزال هناك كثير من الصور المشوشة عن طبيعة الأزمة الحالية فى كاتالونيا، والتى تداخلت مع الكثير من الخرافات والقوالب النمطية. ومن هنا يجب تسليط الضوء ليس فقط على مناقشة الاستفتاء، ولكن على القضايا الأوسع نطاقا المتعلقة بتعدد الديمقراطيات وسيادة القانون. وتحرك الأحداث فى الإقليم الإسبانى الآن مماثل لما يجرى فى بلدان أوروبية أخرى فى عصر الشعبوية، وبالتالى فهى ذات أهمية أساسية لمستقبل أوروبا ككل. وأول خيوط الفيلم الدرامى الذى تلعب عليه حكومة كاتالونيا الانفصالية هو أن الاستفتاء عملية ديمقراطية مشروعة وافق عليها البرلمان الكاتالوني، ولكن تم حظره بشكل غير عادل من قبل الدولة الإسبانية. لكن الطريقة التى صدرت بها قوانين الانفصال - أى وجود قانون يسمح بإجراء استفتاء على الاستقلال وأخر بشأن الانتقال القانونى – والتى صدرت فى 6 سبتمبر الماضى تمت أيضا بشكل غير ديمقراطي، فالكتلة المؤيدة للاستقلال، التى تتمتع بأغلبية بسيطة ضربت بعرض الحائط القواعد البرلمانية لكاتالونيا وحقوق النواب المعارضين، وتم إصدار تشريعين بشكل متسرع فى جلسة متأخرة من الليل ضد تحذيرات المحامين القانونيين للبرلمان الكاتالونى وتجاهل طلب النواب المعارضين للحصول على رأى "مجلس الضمانات القانونية" الخاضعين له بموجب القانون الكتالوني. ونتيجة لذلك، غادرت الكتلة المعارضة الجلسة احتجاجا ولم تشارك فى التصويت وأوقفت المحكمة الدستورية الإسبانية التشريع. ومجددا، تعهدت القيادات الحاكمة فى كاتالونيا بتجاهل أحكامها إلى حد إعلانهم عن مضيهم فى الاستقلال سواء سمحت الحكومة الإسبانية بهذا التصويت أم لا. كل ذلك يشكل انتهاكا واضحا للقواعد التى وضعتها "لجنة فينيسيا" التابعة لمجلس أوروبا، والتى تتطلب، ضمن شروط أخرى، عملية تكافؤ الفرص، وإدارة محايدة، وتشريعات قانونية مر عليها عاما على الأقل قبل إجراء استفتاء. والحقيقة، فإن الاتحاد الأوروبى يستثمر الملايين من الأموال فى تعزيز الديمقراطية البرلمانية فى الدول الأعضاء لتجنب مثل هذا الانتهاك، لكنه لم يتخذ موقفا حاسما من هذا الأمر حتى الآن. وللأسف، فإن حكومة مدريد المحافظة أصبحت هدفا سهلا لمن يتربصون بمحاولات انتهاك الممارسة الديمقراطية، لكن الحكومة الإسبانية الحالية لم تدٌع أمرا لم تفعله ولم تخجل من الاعتراف بأخطائها، بدليل أن ماريانو راخوى رئيس الوزراء الإسبانى أدلى بشهادته بنفسه أخيرا فى المحكمة والبرلمان على حد سواء فى قضية الفساد واسعة النطاق التى طالت حزبه. وتتمتع إسبانيا الحديثة بتعددية ديمقراطية، حيث تدار المدن الإسبانية الرئيسية ومدريد وبرشلونة من قبل الائتلافات اليسارية، وإجراءات تقاسم السلطة هى القاعدة المعمول بها على المستوى الإقليمي. وفى الواقع، تتمتع كاتالونيا بصلاحيات واسعة للحكم الذاتى بعيدا عن المناطق الأخرى ذات التفكير المتماثل فى أوروبا، على أساس الدستور والنظام الأساسي، الذى صوت عليه الشعب الكاتالونى فى عام 2006، والذى قررت الأغلبية الحاكمة الآن إلغاءه من طرف واحد. وإذا كان راخوى لا يملك الحق فى السماح بالتصويت على حق تقرير المصير فى كاتالونيا دون إجراء إصلاحات كبيرة للدستور الإسبانى تتطلب دعما من الشعب بأكمله، فإن الكتلة المؤيدة للاستقلال، التى تمثل حوالى 45٪ من الناخبين الكاتالونيين، يمكن أن تدفع بالفعل إلى الاستقلال، ولكن أساليبها الحالية تظهر عدم احترام لأبناء كاتالونيا الأخرين الرافضين للانفصال والانقسام. ومن هنا، فإن نبرة الضغط على العواطف والتشبه بأوضاع متردية بدول أخرى، التى يسعى إلى تعظيمها مؤيدو الاستقلال، لا تصح فى هذا السياق. فلم تشهد كاتالونيا يوما حملة عنيفة للتطهير العرقي، ولا تمييزا منهجيا يؤدى إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، ولم يتم تسجيل إدانة دولية واحدة لمعاملة مدريد للإقليم. ولكن تماشيا مع موجة الشعبوية وفضائح الفساد الحكومي، وفى سياق تدابير التقشف القاسية، المفروضة على إسبانيا كلها وليس على كاتالونيا وحدها، اندفعت الأقلية وخاصة القوميون منهم، إلى استغلال حجم الاستياء. قد تكون الأزمة فى كاتالونيا مؤشرا على بدء انقسام أوسع نطاقا فى إسبانيا ثم فى أوروبا. فمن جهة، يوجد أنصار الديمقراطية الشعبية المتمثلة فى الكتلة المؤيدة للاستقلال، الذين يطالبون بسياسة على نمط التمرد، ومن جهة أخرى، المدافعون عن الديمقراطية القائمة على سيادة القانون المتمثلون فى الحكومة المركزية ومواطنو كاتالونيا الذين يفضلون الاستفتاء القانوني. وهذا الانقسام سيحدد على الأرجح سياسة البلاد لسنوات قادمة. وهكذا فإن السلطات فى مدريد مخطئة فى اعتبار هذه الأزمة مسألة داخلية، بل إنها تتجاوز الحدود الكاتالونية، ويجب التعامل معها على واقعها وليس على اعتبارات عاطفية ليس لها أساس.