كثيرًا ما يجد الصحفى منا نفسه - إزاء بعض الحوادث التى تبدو فى نظر البعض تافهة - أمام سؤال يحيره: « يا واد تتكلم أم بلاش ولنكفِ على الخبر ماجور؟». هنالك يزمجر فيك ضميرك المهنى مؤنبًا: وكيف لا تتكلم وأنت مهمتك الأساسية هى توعية الناس ودق أجراس التنبيه كلما وجدت خطرًا ما يحيق بمجتمعك؟ أليست تلك هى رسالة الصحافة فى كل زمان ومكان؟ ما بدر من الفنان الموهوب أحمد الفيشاوى خلال مهرجان الجونة السينمائى، وكذلك ما جرى من العميد الموهوب حسام حسن بعد انتهاء مباراة المصرى والزمالك، إضافة إلى الفتوى إياها التى أتحفنا بها أحد أساتذة الأزهر الأجلّاء عن العلاقة الحميمة بين الزوج وزوجته التى ماتت، هى ثلاثة حوادث بوغت بها العقل الجمعى المصرى فى الأيام الأخيرة فحيّرته. وهناك ثلاث قراءات متباينة للحوادث الثلاثة تؤكد أن ثمة خللًا ما يستوجب التوقف عنده، فالحذر، ثم التحذير. القراءة الأولى المتساهلة ترى أنه ليست هناك مشكلة ويجب ألا نعمل من الحبّة قبة، وأن الحرية تقتضى أن يقول كل منا ما شاء وقتما شاء مادام أنه لم يؤذ أحدًا إيذاءً ماديا مباشرًا يعاقب عليه القانون. وسيقول لك أصحاب تلك الرؤية «يا عم كبّر دماغك وهل الكلام عليه جمرك؟». القراءة الثانية تناقض هذا الرأى تمامًا، وتذهب إلى ضرورة أن يضبط كل منا كلامه فلا يطلق للسانه العنان كلما عنّ له إطلاق اللسان، خاصة لو كان المتحدث شخصية عامة مشهورة ويخاطب الجمهور على الهواء مباشرة، وذلك نظرًا إلى أن الشخصية العامة عليها مسئولية مجتمعية ينبغى عليها توخيها دائمًا، والمفترض فيها أنها مثال وقدوة للآخرين، وتحديدًا للشباب. ويرتب هؤلاء على ذلك أنه ما كان للفيشاوى أن يتلفظ بلفظ كهذا وهو يعلم أن كاميرات الدنيا تنقل افتتاح المهرجان حتى لو كان يريد الهزار وإضحاك الحاضرين، وما كان لحسام أن يرفع غاضبًا فانلة الأهلى مناكفة فى جمهور الزمالك حتى لو تلفظوا عليه بألفاظ أغضبته، وأيضًا ما كان لفقيه الأزهر أن يتناول هذا الموضوع الذى لا داعى له أبدًا الآن ولا يهم الناس فى شىء، إذ المفترض فى شيوخنا الأجلّاء أن ينيروا الطريق للعامة فى قضاياهم اليومية التى تهمهم الآن. ثم .. هناك رأى ثالث- يتحدث به المتفلسفون عميقو الرؤية مدمنو التحليل والتنظير المتقعر- يقول إن هذا الانفلات ليس إلا سمة من سمات العصر كله فى كل بلدان العالم، وساعدت على الترويج له وانتشاره المواقع الإليكترونية وتطبيقات التكنولوجيا، مثل الفيس بوك والتويتر والإنستجرام وغيرها، بل وتعج به أفلام السينما عندنا هذه الأيام، وكذلك أغانى المهرجانات والأفراح الشعبية والعشوائيات، ويرتبون على ذلك أنه لا جدوى من النصح والإرشاد أمام هذا السيل الجارف من «الثقافة الشوارعية»! فإلى أى الآراء الثلاثة تنحاز سيادتك؟ كاتب المقال - وبدون أى تردد ينحاز إلى الرأى الثانى ورزقه ورزقكم على الله. نعم.. وهل تُعرف المجتمعات الراقية المتقدمة إلا من خلال رقى تصرفاتها وألفاظها وسلوكياتها العامة؟ إن أجدادنا الأولين عندما اخترعوا المثل الشهير البليغ « الأدب فضلوه على العلم» لم يكونوا يقصدون الأدب بمعناه الحرفى، كالشعر والقصة والخطابة وغيرها، بل قصدوا به حسن السلوك والمعاملات مع الآخرين. انضباط الألفاظ يحمل فى طياته ضبط النفس والانفعالات والسلوك، وما وصف إنسان ما بأنه مُستهتر إلا دلالة على أنه لا يضبط أفعاله وكلامه وسلوكه. والأخطر من هذا أن المسألة لا تتوقف عند مجرد الشكل العام للشخص بل تمتد إلى أدائه العمل المكلف به، فالمستهتر لا يتقن ما يقوم به، وتكون النتيجة فشله، فإذا ما اجتمع مستهتر مع مستهتر آخر أصبحنا أمام فشلين اثنين، فإن عم الاستهتار ساد الفشل فأحرق بناره الجميع. أتدرى ماذا كانت نتيجة لفظة الفيشاوى تلك ( رغم أنه خرج فيما بعد فاعتذر عنها)؟ لقد ترك الناس الأهمية الكبرى للمهرجان باعتباره إضافة جديدة إلى السينما المصرية ولحركة الثقافة فى البلد عمومًا وراحوا يغرقون الفيس بوك بالتعليقات والقفشات والبذاءات، فوجدنا أنفسنا نسينا الإنجاز الحقيقى لننجر انجرارًا إلى شلال من التفاهة. وأما بالنسبة لغضبة حسام فقد كانت نتيجتها أننا نسينا الجهد الكبير الذى بذله لاعبوه المجتهدون بالملعب سعيًا لإدراك التعادل أو حتى الفوز.. وقل الشىء نفسه عن تلك الفتوى الشاذة إياها. يا سادة الاستظراف والهزار والانفعال والهرتلة، اعلموا أن لخفة الدم وقتها ومكانها ومناسبتها، فلا يصح خلط الجد بالهزل.. فالهازلون أول من تدهسهم الحياة، إذ الحياة ليست لعبة للمستهترين ولا للمنفلتين، فما بالك إن كنت تستظرف وأنت شخصية عامة مرموقة وأمام جمهور يتلهف على تقليدك ومحاكاتك؟ هنالك تكون المصيبة أعظم وأضل سبيلًا. لفظة الفيشاوى وفانلة حسام وفتوى الشيخ الجليل ( وغيرها الكثير من مظاهر الانفلات فى حياتنا اليومية والثقافية والفنية) إن هى إلا ناقوس خطر يدق وإنذار مبكر على أن ثمة شيئًا ما ليس مضبوطًا. وعلاوة على ما يتركه هذا الانفلات من شيوع ثقافة البذاءة وتفشى القاموس الردىء من الكلمات بدلًا من كلام الناس المحترمين بين أبنائنا وبناتنا ( ما سيدفع الآباء والأمهات والمجتمع كله ثمنه غاليًا) فإن ثمة ما هو أخطر. وذاك هو أن العملة الرديئة تطرد دائمًا العملة الجيدة، وفى حالتنا تلك فإن الأجيال الجديدة عندنا ستحسب أن هذه هى حال الدنيا وأصل الحياة، وأن ما تتلفظون به هو الأصل بينما عفة اللسان هى الاستثناء.. فيا قادة الفن والفكر والرأي والثقافة والإعلام والرياضة عندنا نرجوكم.. اضبطوا ألفاظكم من الآن فصاعدًا يرحمكم الله. لمزيد من مقالات سمير الشحات