منذ قرأت رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم؛ في بدايات التسعينات تقريبا، وأنا أعتبره أحد كتابي المفضلين. يصدر كتابه الجديد فأشرع فورا في قراءته. بدا لي نص اللجنة عملا مدهشا وجديدا في فكرته وبنيته، في سياق لنص العربي المعاصر. كان نصا مختلفا على مستويات عديدة من حيث تكريس الصوت الفردي، والأجواء الكابوسية، المطعمة بالسخرية، في تعبيره عن التغيرات التي لحقت بالمجتمع في فترة ما بعد المد القومي، وبداية ظهور تأثير العولمة عبر الشركات العابرة للقارات، بشكل مختلف عن السائد في النصوص العربية المواكبة لزمن صدور الرواية. وبدأت البحث عن أعماله، وبينها النص الأكثر إثارة للجدل «تلك الرائحة»، والذي أكد إحساسي باختلاف وتميز صوته وتفرده، حتى وقعت على عمله الفذ «نجمة أغسطس»، والذي اعتبرته نصا تجريبيا مختلفا، كشف لي أساليب جديدة تماما في كتابة النص الأدبي. وأظن هذا النص من أبرز النصوص التي أثرت في كتابتي كثيرا، خصوصا ربما في روايتي الأولى «كهف الفراشات»: المشهدية من خلال الجمل القصيرة الواصفة لتفاصيل عادية، التي يصنع تراكمها حالة معرفية أو شعورية بواقع محدد. الولع بالتفاصيل التي تبدو عابرة لكن لها مدلولها التوثيقي، مثل سعر وجبة طعام مثلا، أو غلاف مجلة، أو الإشارة بتعليق عابر عن تخصيص الحكومة لحافلات للروسيات في أسوان في الستينات، ليتبين المرء، بلا ضجيج أو مباشرة، أن التحرش الذكوري في المجتمع له أصول بعيدة. أو التقاطه لمشهد سائحتين فرنسيتين تتسابقان لتصوير جمل مار، ويصفه الراوي ساخرا بالمعجزة المصرية. بالإضافة طبعا لاستخدامه الجنس بشكل طبيعي وعادي تماما ليكسر الحساسية المبالغ فيها فيما يتعلق بتناول الجنس في النصوص العربية. كانت «نجمة أغسطس» عملا استثنائيا ايضا من حيث توثيقها لبناء السد العالي، وربط هذه الفكرة ببناء الرواية نفسه، واستخدام العمل الفني من خلال كتاب مايكل أنجلو في نسيج النص، ومن حيث تصوير أسوان ومعبد أبي سنبل، ومزج أدب الرحلة بالتخييل وبالواقع معا، وبناء مبنى فني يعادل مجموعة من الرموز لأفكار عديدة حول واقع مصر خلال تلك الفترة. تجلى اهتمام صنع الله بموضوع البناء الروائي أيضا في روايته اللاحقة «ذات» التي صدرت ربما في العام 1993، وقدم بها شكلا جديدا ومختلفا لتطعيم التخييل بالوثيقة. طبعا سأدرك مدى ولعه بالتفاصيل حين استدعاني بعد عودتي من مسقط في سلطنة عمان، بعد تعرفي إليه، حين اتصلت به لإهدائه أول مجموعاتي القصصية، والتي بدأت بعدها علاقة بديعة توثقت عبر اتصالاتي به، وزيارتي له كلما أتيحت فرصة. أما في ذلك اليوم فقد استدعاني يسجل لي إجاباتي عن التفاصيل الدقيقة للحياة في مسقط: تكلفة استخدام المواصلات المختلفة، الحياة اليومية، وغيرها من التفاصيل؛ حيث كان عاكفا على روايته البديعة «وردة» ربما في العام 1997 أو 1998. وهي من الروايات التي أحبها كثيرا، لكونها رواية غير محلية، وتضئ فترة غير معروفة في مصر حول ثورة ظفار في نهاية الستينات. بالإضافة للنموذج الفذ للمرأة، الثائرة المتحررة، التي يتبناها النص. أعتقد ان الرواية الوحيدة التي لم أتحمس لقراءتها بين أعمال صنع الله إبراهيم هي شرف، ولا أعرف لماذا، فقد صدرت خلال فترة وجودي في مسقط، بين 1994 و1997، وحين عدت للقاهرة لم أجد نفسي متحمسا لها، ربما بسبب ما قرأته عنها، وعن تضمينه نصا مسرحيا داخلها، لا أعرف بالضبط. على عكس بقية ما صدر له بعد ذلك، مثل رواية «أمريكانلي»، التي تناول فيها موضوع الشرق والغرب، وتعمق فيه لاحقا في «العمامة والقبعة»، ثم في «القانون الفرنسي»، إضافة لروايته بالغة الحساسية «التلصص». التي قدم فيها أيضا تجربة لغوية مهمة جدا بالجمل الفعلية التي لا وجود فيها لزمن الأفعال سوى المضارع. أذكر حين طلب مني إلياس خوري، عن طريق الكاتب الراحل جمال الغيطاني، إجراء حوار مع صنع الله إبراهيم لملحق النهار عقب رفضه جائزة الرواية العربية في الواقعة الشهيرة، قررت أن أقرأ ما فاتني له، ووجدت أن الروايتين الوحيدتين اللتين لم أقرأهما له هما شرف وبيروت بيروت، ولكني وجدت عدم حماسي لشرف مستمرا، فقرأت بيروت مستمتعا بمحاولة تقديم تفسير للغز اللبناني الطائفي وتعقيده، وإن كنت لا أظن أنني تمكنت رغم ذلك من فهم تلك المعضلة. ما أثار إعجابي بشكل خاص في حياة صنع الله، هي فكرة التفرغ التام للكتابة، وهي مسألة تثير حسدي لأي كاتب يمكن له أن يتخذ مثل هذا القرار، خصوصا أن له أسرة وابنة درست دراسة راقية في الولاياتالمتحدة. واعتقد أن السيدة النبيلة، ليلى، زوجة هذا الكاتب الاستثنائي لها دور رائع في ذلك. بالمناسبة، وعلى ذكر فكرة تفرغه للكتابة وتعامله مع الحياة أيضا ككاتب، كان صنع الله وزوجته الراقية بين المدعوين لحفل زفافي، وحين بدأ الحفل رأيته يتحرك بانزعاج، وبسرعة سألت الأقارب وبعض الأصدقاء أن يذهبوا إليه ويتبينوا ما يزعجه، فأخبروني أنه منزعج من علو الصوت. فطلبت منهم بسرعة أن يجدوا وسيلة لخفض صوت السماعات بأي شكل. وذهب إليه والدي في النهاية واصطحبه خارج القاعة قليلا ليخفف من انزعاجه. وضحكنا طويلا أنا وهو والسيدة ليلى على هذا الموقف حين التقيتهما في منزلهما، وفوجئت أنه راح يعتذر لي على ذلك الموقف، بينما أخذت السيدة ليلى، ضاحكة، تعلق على موقفه، وانزعاجه من الصوت في قاعة لا يمكن توقع أي شئ آخر فيها! طبعا صنع الله إبراهيم على الجانب الإنساني لا يحتاج لشهادتي في مدى دماثته ولطفه، ورعايته للشباب ومحبته الصافية لهم، وهناك عشرات من الشباب يعرفون عن دعمه لهم، وهو مثلا كان قد حضر أكثر من حفل توقيع لكتابي في القاهرة من دون أن أتوقع وجوده بصراحة. كما أنه لا يحتاج شهادتي في تقديره الصادق للمرأة ودورها المهم في الحياة. إضافة إلى غياب الأنا عنده تماما، وغالبا حين أبادر وأسأله عن أحواله أو كتابته يغير الموضوع فورا لكي يطمئن هو على أحوالي. كاتب استثنائي، وصديق كبير، ومناضل مؤمن بقضايا وطنه، لم يقترب يوما من المناصب أو يتكالب على منافع، وقدم لنا نموذجا رفيعا للمثقف المستقل والكاتب المستقل، ويحق لي أن أفخر أنني عايشت تجربته وعصره.