لا يمكنك قراءة ديوان شعر مرة واحدة. قراءة الشعر تختلف كثيرا عن التعامل القرائي مع النثر. عند قراءة النثر قد تتطاير الفكرة خلال القراءة. فتحاول اصطيادها والإمساك بها. ثم تقليب فكرك حولها. لكن تلقي الشعر يبقي حالة وجدانية أخري تأخذك من واقعك إلي عالم يبنيه الإيقاع الشعري. فعالم الشعر محكم. بيت بيت. وفقرة فقرة. ومعايشة هذه الحالة تجعلك تؤجل الانتهاء من معايشته والعودة له أكثر من مرة. ربما علي فترات متباعدة. خصوصا عندما يتكون الديوان. مثل ديوان ميسون صقر: جمالي في الصور. من أجزاء: الجزء الأول عنوانه: عيون تتبعني في المنام. والثاني: العابرون إلي الرؤية. والثالث: الغياب جاء. والرابع: لا مرارة بيننا. والخامس: عالقة في الرف الأخير من حلاوة الروح. والسادس وليس الأخير جمالي في الصور. ومن المؤكد أن الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية. والمخرجة السينمائية ميسون صقر قد واجهت صعوبة عند اختيار عنوان الديوان. لأن عنوان أي جزء من أجزائه الستة يصلح عنوانا للعمل كله. عند قراءتك الديوان قد تحسد ميسون صقر علي شاعريتها المرهفة وإن كنت أنا قد حسدتها علي أن في حوزتها وبين أوراقها القديمة صورة لطفولتها. ربما كانت في الخامسة من العمر. صممت غلاف ديوانها مثل باقي أعمالها الفنية بهذه الصورة. ولأن الأطفال في هذه السن يتشابهون كثيرا. قد تنظر إلي الصورة باعتبارها صورة للطفولة في كل زمان ومكان. وصورة الطفولة تكون سابقة علي أسئلة الوجود الكبري وحمل الهموم. والاقتراب من الأحزان وربما كانت الدهشة الكبري هي عنوان نظرات ميسون الطفلة. جمالي في الصور الذي أصدرته دار العين, هو ديوان ميسون صقر الثالث عشر. وإن كان يبدو مختلفا عن باقي نتاجها الشعري السابق سواء بالفصحي أو العامية المصرية, من حيث الغنائية والمفردات والموضوعات. في هذا الديوان تحاول ميسون صقر مقاربة الراهن في مصر هنا والآن بعيدا عن الخطابية والتسجيلية والمباشرة. فرغم صخب الوضع وضجيجه حاولت ميسون أن تهمس بما عندها. أن تومئ ولا تصرح. أن توشوش ولا تسمع صوتها للآخرين. وإن أشارت فإنها تحرص علي أن تشير ولكن من بعيد. الديوان مهدي: للكنانة التي في القلب. للقلب وسط الحشود. واختيار القلب من وسط الحشود اختيار شاعرة لأن الحشود تستدعي إلي الأذن الزحام والهتافات الحنجرية. ولكن العين تجري وراء اللافتات التي تشكل مشهدية المنظر. أما حس الشاعرة المرهف فقد ذهب إلي القلب. لأن نبض القلوب. ربما كان أقوي من الصخب والضجيج الخارجي. تقول الشاعرة: كيف أصف ما يحدث؟/ وأنا مهرولة إلي القاع/ كيف نتلو الشعر والدم نازف من المقلة؟/ كيف نضحك وابتساماتنا/ تسيل منها مرارات؟ كيف نحيا برائحة الموت والموتي عابرون؟/ كيف نصف ونحن/ في الوصف المباشر أشد؟/ كيف نقفز من الجسر فجأة/ لنتحول إلي بقايا ذكري/ نتناثر في الهواء؟/ كيف نمد الورد, والشوك قبلة/ تجرح الشفاة؟ كيف نغير الملامح ونقدر علي الحركة/ بين الصورة والعدم؟/ كيف نغير الملامح ولا نقدر علي الحركة/ بين الصورة/ والروح المتحفزة للطيران؟/ كيف نغير الصوت, والنبرة تصرخ/ كفي, الصراخ يعود للكلمات؟/ كيف نغير الصوت في الكلام/ ونصدق أن الكلام جديد؟. لا تتصور أن الديوان أسلم نفسه لميادين التحرير المصرية والعربية. لأنه في أعماق الثورات مشاعر إنسانية. لأن صناع الثورات بشر من دم ولحم. لهم قلوب. والقلوب هي مفاتيح الحب حتي لو كان هذا الحب في علم الغيب. تقول الشاعرة: من أحب لا يحبني/ من لا أحب يحبني/ ما آكله لا أحبه/ ما أمتنع عنه أذوب فيه/ لماذا تعود عقارب الساعة/ إلي لحظة الولادة والغياب؟ هذه هي القصيدة التي اختارتها ميسون صقر عنوانا لديوانها. ألقني في حضنك دون مرارة/ بلا موعد محدد/ بلا غيوم علي الوجنتين/ أرجعني لجمالي في الصور/ ليقيني في المرآة/ لا تتسع عيناك لرؤيتي/ لا تتوري نجمة في بياض السريرة. اختارت ميسون قصيدة أنا الملكة لتزين بها غلاف ديوانها الخلفي. وعند تذوق هذا النص. أدركت أن الشاعر أول من يدرك سر صنعته. وأنه عندما يودع من نفسه في كلماته. يدرك سر الأسرار وأنه إن كان الناثر لا يميل لقراءة نثره بعد نشره. فإن الشاعر قد يعيد تذوق ما أنشده بعد ذلك أكثر من مرة. أنا الملكة,/ ملكة نفسي/ وشعبي جسد/ أملكه ويملكني/ أحكم أرضه وسماءه/ أنا الأرض/ أرض الميعاد/ يدي فوق قلبي/ حين أكون. قبل ديوان ميسون. كانت قصيدة محمود درويش عن محمد الدرة. التي شكلت خروجا عن القصيدة الوجدانية للاهتمام بالشأن العام. وفي أبريل الماضي قرأنا قصيدة جونتر جراس: ما لا يقال. عن محاولات الصهيونية العالمية وأمريكا ضرب إيران. ثم عاد الشاعر الألماني النوبلي. وكتب: عار أوروبا. فهل نحن أمام حالة شعرية تخرج علي الشعر بوصفه حالة تعبير عن فردية الشاعر؟ وأننا في الطريق إلي شعر ملوث بوحل الحياة اليومية. علي حد تعبير الناقد العربي الأردني: فخري صالح في مقال مهم له بجريدة الحياة اليومية؟!. المزيد من مقالات يوسف القعيد