«لتمام الظهور لابد من الغياب».. أنت لا تحس قيمة النور والدفء، إلا لو عشت وعايشت غياب الشمس . استعرت المعنى ونص العبارة من كتابات جمال الغيطاني، واستشعرتها جلية واضحة مع استشهاد ابن لمصر كلها، وابن لى شخصيا وإن لم أنجبه، كنت أحسه بعضا مني: شهيد مصر احمد صابر منسي، كانت رواية جمال الغيطانى عن شهيدنا إبراهيم الرفاعى جسرا لإخوة ربطت ما بينه وبين امتداد الغيطاني، وعرفت أنه حين علم بمرقد الرفاعي، صار قبلته التى يفتتح بها كل مرة ينزل فيها إلى القاهرة، ثم تحولت الزيارة إلى عهد يتجدد، كأن حوارا ممتددا وثق بينهما. أو كأنما عثر أحمد على فحوى رسالته، فى الحياة عند إبراهيم الرفاعي، فراح يقتفى أثره، يلملم عنه الوقائع المسجلة ولايترك حتى ومثلما كان الرفاعي، صار أحمد مقاتلا جسورا، بقلب شاعر ذروة العطاء الصامت، المتواضع الوطنية الحقة، بغير كلام. آخر من يأخذ وأول من يموت ترك إبراهيم الرفاعى ليلى وسامح اللذين التقيتهما وهما فى أعمار حمزة وعلياء، وعلى الذى لم يتجاوز العامين لا يمكن أن تسمعه يتكلم عن نفسه، وحين كان يترامى إليه أى معنى من هذا القبيل كانت عبارته ما تخافش على توقفت عند واحدة من صوره، طائر صغير يقف ذراعه وهو مرتديا بزته العسكرية، ووجهه غارق فى نظرة باشة لهذا الطائر الذى حط بسلام فوق كتفه لم يكن عصفورا ولا بلبلا، بل صقر صغير. كان يأتنس أحيانا بالكتابة، مناجيا من سبقوه من الشهداء يلضم أسماء شهداء سبقوه عنقود الفل وتاج رأس مصر ويعدهم باللقاء كتب: الصمت لا ينفى وجوب الكلام وخوض الحرب حينا لفرض السلام/ الدمع حزن فى القلوب ينتظر طيف الشهيد مارا بابتسام/ قد جمعنا نداء وطن وافترقنا على موعد رب الأنام/ على موعد أو لقاء يوما افترقنا لا جف دمع ولا رفعت الأقلام/ الأبوة فى رياض فارس الشهداء وفى الرفاعى اسطورة الإقدام/ رجال صدقوا عهدا مع الله فهنيئا لإخوة الدم الكرام إلى أن يقول: أنتم سابقونا ونحن بكم اللاحقون فى ميدان العزة حيثما وطأت الاقدام/ شجاعة ادريس و عمرو الى هارون واحمد ابن ابراهيم ورامي/ الدرديرى بطل حازم وغنيم عاشقى تراب مصر بغير كلام. لعلها من أصعب مرات الكتابة التى أحس فيها رهبة وربما عجزا، بل هى أكثرها شعورا بتقزم الأحرف، أمام جلال الاستشهاد اليومي، لخيرة من انجبتهم مصر خلاصة المصريين الذين يشترون استقلال الأرض بأرواحهم من على الله بالاقتراب الروحى من أيقونات خلاصة المصريين على مدى فترات، كان أولها عام 1974، حين دخلت بيوتا طاهرة وتعاملت مع أبناء الشهداء إبراهيم الرفاعى وإبراهيم عبدالتواب وغيرهما من العازفين على وتر الوطنية، فعلا، لا أهازيج.. ثم بعدها بما يقرب من ثلاثة وأربعين عاما، اتصل الوصل مع الشهيد الرمز احمد صابر منسي، الأشبه بالأسطورة، ليس فقط من حيث الزهد والاستبسال ولكن من حيث التكوين الذى يدعوك لتأمل تلك الجذور، التى أنبتت نموذجا فى الإخلاص والقناعة بأن الحياة هى فى محصلتها رسالة.. وليست قنصا و لا انتفاعا.... الشهيد أحمد صابر منسي، الشاعر، عاشق الموسيقى وعازفها.. ناثر الخير أينما حل، كما وصفه لى واحد من مريديه، نعم لأحمد صابر المنسى مريدون، حتى قبل أن يستشهد، مريدون يجمعهم خصال قائد بكل ما تعنيه الكلمة كان عمود الارتكاز بين رجاله وبين أسرته وبين الرفاق الذين كان يصطفى فيهم، كل ماهو نبيل لم يكن أحمد صابر الذى تحول الى رمز جديد لافتاء الوطن، مجرد نتاج للخبرة والتعلم و الوعى والانتماء للمؤسسة الوطنية العسكرية، لكن ذلك سبقه انتماء لأسرة ظل ربها لأكثر من نصف قرن، يؤمن، وهو الطبيب الأشهر لطب الأطفال فى الشرقية ثم العاشر من رمضان، ان الطب رسالة، كما أن الحياة نفسها: رسالة . كان الدكتور صابر منسى رحمه الله، يعالج نصف مرضاه دون مقابل، ولا يزيد كشفه للقادر على خمسة جنيهات بالفزيته أم خمسة جنيهات وثروة من القناعات القيمية، وأرصدة بلا سقف من تقوى الله والوطنية والجدعنة ربى الدكتور صابر منسى للوطن، ضابطا وطبيبا ومهندسا. قبل أشهر أصيب الشهيد أحمد بشظية فى الذراع، وكان المفروض أن يعالج ويحصل على إجازة لهذا العلاج، لكن جملة وحيدة حسمت الموقف: سوف اعالج وسط رجالي. كيف توافد كل هذا الجمع الشاب على بيت الأسرة عقب الاستشهاد وقد أتوا من كل فج عميق؟ ما كل هذه النزعة الخيرية وما كل هذا الحب؟ كأنما أحسوا بشمس تغيب. واحد من أقرب أصدقائه لخص لى الحكاية: الحياة تختلف قبل أن ألتقى أحمد وبعد أن التقيته، كما انها (بالنسبة لمن عرفوه) تختلف قبل استشهاده عنها بعد. فى بعض الأحيان يكون الكلام أو الكتابة خصما من نبل المعنى ، أو يكون المعنى متجاوزا أى تعبير وهذا ما اعترانى ومع ذلك أكتبه عن جون واحد من رفاق أحمد صابر منسي، رفقة تجاوزت المألوف والشائع جون شارك بالقراءة فى المصحف فى ختمة للقرآن مهداة الى روح أحمد، وأصر على أن يكون هو من يأتى بشاهد القبر الرخامي، الموشى بالآيات ويضعه فوق المستقر كان أحمد منسى مغناطيسا لأى نقطة خير، والتعبير ليس منى كان عازفا قديرا وقادرا على استخراج الجدعنة والوطنية يقينا أن أحمد صابر منسي، كان عاشقا للحياة، بتجلياتها الإنسانية وأنه كان يقدرها جل قدرها، كان إنسانا ذا رهافة و فيض من الحنو وقدرة على اكتشاف الجوهر الذى يستحق لكن السؤال أى نوع من الحياة؟ يقينا إن أحمد لا يحتاج منى أو من غيرى أن يكتبوا، فهو حى أكثر منا لكن الأكثر يقينا أننا نحن من نحتاج إليه معنى بعد استشهاده كما احتجناه، مقاتلا يهدينا فرص الحياة: تستغربون أجيالا كأنها تنبت شيطانيا، ماسخة، بلا هوية؟ تخافون من تمزق الروابط ووهن الانتماء؟ يؤرقكم الفساد ومن لا يرون فى الوطن إلا فريسة؟ يا وزيرى التعليم والثقافة، يا أيها الإعلام لا تجعلوا من عشاق الوطن والحياة سرادقات تعازى موسمية. حصنوا بسيرهم الإنسانية مستقبلنا ليكن أحمد صابر منسى وكل الذين اشتروا ثمن فرصتنا فى الحياة بأرواحهم، هم النجوم الزاهرة . لمزيد من مقالات ماجدة الجندى