أكثر من أربعة عقود من تحلل مقومات الوطن، بفعل الفساد والإفساد، تفشت فيها جراثيم القبح، حتى استحالت أعراض أمراضها سلعاً فى أسواق الإعلام، وتَحَوَّلت ظواهر عللها إلى مظاهر حاكمة لمفردات الحياة، ما بين سلبية تفرض نفسها شعارات حياة (وأنا مالى مالبلد بلدهم)، وهمجية تطرح نفسها مكوناً رئيساً للحياة عبر فنون منقطعة الصلة عن أصيل الموروث (مهرجانات للضوضاء والعشوائية والعنف)، وتطرف يرفض كامل مكونات نعمة الله الأكبر علينا (الحياة)، وتمرد يداعب أمانى عجزت عن الحضور فى المشهد إلا عبر قاعدة (خالف تُعرَف). إنه الواقع الذى يجب أن تكون المكاشفة فى مشهده هى منصة القفز نحو تغييره، وإنه الواقع الذى لا يمكن تجاوزه إلا عبر الضغط على جراحه العميقة لتطهيرها، فلا تلتئم جراح الوطن على تقيحات القبح، وإنها نخلة الوطن التى باتت متهمة بالعجز عن أن تثمر، لكنها أبت إلا أن تطرح على رؤوس الأشهاد ثمرة أصيلة النشاة، غضة المشهد، غنية التكوين. اهتزت نخلة الوطن الشامخة، فأسقطت على رؤوسنا ثمرة مصرية بهية تحمل اسم (مريم فتح الباب)، البنت الثانية فى أسرة مكونة من خمس بنات إلى جوار الأب والأم، (مريم) الثمرة التى روى شجرتها عرق أب مصرى أفنى عمره يكد حارساً لعقار (بواب)، وأم مصرية تظلل على أسرتها التى تؤمن بها رسالة إعمار ونماء. اهتزت نخلة الوطن العجوز، فأسقطت علينا (مريم فتح الباب) الأولى على الثانوية العامة فى مصر عام 2017م، صبية بهية نمت فى أحضان بيت مكون من غرفة، وتفتح وعيها على نهايات عصر (مبارك) وتجليات (الفوضى الخلاقة)، وبدأت مرحلة الحلم فى الإعدادية ليصدمها قلق ذكورى لأبيها الذى كان يتمنى (ولداً)، وتحركت صوب حلمها بينما نحن معطلون بفعل الخِدْر الثورى وشعاراته، وانطلقت نحو التحقُق بينما الكل كباراً وصغاراً منشغلون بمعارك التشتيت والتفتيت، يحاربون طواحين هواء فى ساحات إعلامية تقليدية ومستحدثة، حتى استيقظنا على نتيجة الثانوية العامة لنكتشف أن نخلة الوطن لا تزال قادرة على الطرح. امتلكت (مريم) كل رحابة الحلم رغم ضيق منزلها المكون من غرفة واحدة، وحين سُئِلت كيف كان التفوق رغم كل ظروفك؟، أجابت بكل أريحية ( ظروف ايه؟! أنا ماعنديش ظروف الحمد لله أنا أحسن من غيرى وماكانش فيه اللى يعطلنى عن مذاكرتي)، تماماً كما امتلكت أصيل الانتماء للوطن رغم كل حملات التشكيك فى بقائه، تقول الصبية أصيلة الفطرة والانتماء (أنا نفسى أعمل حاجة لبلدي) فيهز محاورها رأسه كونها تخاطب ود كاميرات التصوير بكلام إنشائي، فتتابع الصبية (أنا مابقولش كلام إنشا، البلد دى أخدت منها مدرسة مجانى وطلعت الأولي، ولسه البلد دى هاتدينى جامعة ببلاش، فلازم لما أتخرج أعمل اللى يساعدها)! رفقا بنا يا مريم، فإنك تصدمى بأصالة براءتك، قبح عجزنا، وقلة حيلة حلمنا، وصناع إعلام السخرية و (الكوميكس)، تجبرينا على أن نطل فى مرآة واقعنا على نجوم السينما والدراما والتوك شو، لنكتشف أن كل المليارات التى يتم استثمارها فى فرض القبح، وخلخلة الانتماء، وزعزعة اليقين بالوطن، تذهب أدراج الرياح أمام مكامن القوة الساكنة فى نخلة الوطن، حتى إن صبية من بنات بهية قادرة على أن تثور بناءً لتصنع حلماً لمصر القادرة على أن تعلو نخلة، لا يعجزها قبح الواقع عن أن تسمو بهاءً، ولا يمنعها سيادة القبح عن أن تنمو ازدهاراً، ولا يحنى هامتها إيقاع القبح فتسير فى ركابه. إن هذه السطور تتجاوز حالة الاحتفاء بواحدة من بنات (بهية)، وتتعدى حالة البكاء على أطلال أحلامنا التى طال بنا تأجيل ترميمها، لتتحول إلى ميدان بحث يستحق الدراسة كونه ذاتى الصناعة بغير تدخل رسمى أو غير رسمي، وإلى نموذج جدير بأن يتم وضعه فى إطار الاقتداء فى زمن عز فيه النموذج. لقد عاشت مصر فى ركاب الخضوع لصناع وعى يرفعون شعارات السخرية من كل شيء ومن أى شيء، حتى كان شعار أحدهم (ما تقولش إيه إدتنا مصر، قول هناخد إيه من مصر؟) قالها قبل أن يعممها فى أحد أعماله السينمائية، لتدخل مصر مع هذا التعميم مرحلة فرض ثقافة عدم الانتماء والانتهازية، وليدخل أهلها فى أتون ملتهب من حرق القيم والإنسانية وقواعد الخصوصية المصرية الضامنة لثبات الوطن قبل منظومات الحكم فيه. لقد سارت مريم بحلمها منفردة وإن كانت لم تصرح بذلك، مدعومة بأبوين كانا الوطن والنظام على ضيق ذات اليد، أدت ما عليها حتى باتت الأولى بينما الجميع خلفها، وإن كنا قد استيقظنا على ثمرتها تنضج معلنة أن الصبية صارت الأولى على الجمهورية، فهنا يأتى دور الإدارة للوطن تفعيلاً للنموذج واستنهاضاً للهمم وإحياءً للموات، وامتلاكاً لطاقة الحلم، إنه واجب العموم بعدما أثبت الفرد (مريم) قدرته على أن يكون، منعزلاً عن أى دعم، ومنفصلاً عن كل تأثير إيجابى يصنعه المناخ الإداري، إن نخلة الوطن تحتاج إلى يد إدارة قادرة على أن تهز جذعها ليساقط علينا ثمر البقاء والاستقلال والأمل. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;