جامعة المنيا تفوز بثلاثة مراكز مُتقدمة على مستوى الجامعات المصرية - تعرف عليها    مقترح برلماني لإلغاء درجات "الحافز الرياضي" لطلاب الثانوية    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الأحد 2 يونيو 2024.. البطاطس ب10.5 جنيه    وزارة التموين: انتظام صرف الخبز المدعم ل71 مليون مواطن    «الإسكان» تدرس شبكات المرافق في المناطق الجاري تقنين أوضاعها بالعبور الجديدة    «النقل»: تنفيذ 18.5% من الحواجز بمشروعات ميناء الإسكندرية الكبير    العليا للحج والعمرة: انتظام أعمال تفويج حجاج السياحة وتكاتف لإنجاح الموسم    المانجا طابت على الشجر.. حصاد مبكر لمحصول المانجو بجنوب سيناء    بعد إعلانه ترشحه للرئاسة.. من هو الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد؟    مسبار صيني يهبط على الجانب البعيد من القمر    جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفذ غارات على أهداف في لبنان    كوريا الجنوبية والولايات المتحدة تدينان الاستقزازات الأخيرة لكوريا الشمالية    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا حيويا في إيلات بإسرائيل    وزير الخارجية يتوجه لإسبانيا للتشاور حول مستجدات القضية الفلسطينية ومتابعة مسار العلاقات الثنائية    موعد مباراة حرس الحدود ضد سبورتنج والقنوات الناقلة    السولية: نهائي القرن أمام الزمالك هو اللقب الأصعب مع الأهلي    بالأسماء الأهلي يفاوض 3 لاعبين.. شوبير يكشف التفاصيل    احمد مجاهد يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة اتحاد الكرة    موجة حر شديدة تجتاح عدة مناطق في مصر: توقعات بدرجات حرارة تصل إلى 45 درجة    شاومينج يزعم تداول أسئلة امتحانات الدبلومات الفنية 2024 عبر تليجرام    تحديد أولى جلسات استئناف الفنان أحمد عبدالقوي على حكم حبسه    هربا من مشاجرة.. التحقيق في واقعة قفز شاب من الطابق الرابع بأكتوبر    بحضور البابا تواضروس.. احتفالية "أم الدنيا" في عيد دخول السيد المسيح أرض مصر    مى عز الدين تطلب من جمهورها الدعاء لوالدتها بالشفاء العاجل    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    هل يجوز أن اعتمر عن نفسي واحج عن غيري؟.. الإفتاء توضح    شروط الأضحية الصحيحة في الشرع.. الإفتاء توضح    طريقة عمل الكيكة الباردة بدون فرن في خطوات سريعة.. «أفضل حل بالصيف»    جامعة حلوان تحصد العديد من الجوائز في مهرجان إبداع    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    مواعيد قطارات عيد الأضحى المقرر تشغيلها لتخفيف الزحام    منحة عيد الأضحى 2024 للموظفين.. اعرف قيمتها وموعد صرفها    ما هي محظورات الحج المتعلقة بالنساء والرجال؟.. أبرزها «ارتداء النقاب»    «الإفتاء» توضح حكم التصوير أثناء الحج والعمرة.. مشروط    خبير سياسي: الاجتماع المصري الأمريكي الإسرائيلي سيخفف معاناة الفلسطينيين    بسبب سيجارة.. اندلاع حريق فى حي طرة يودى بحياة مواطن    وزير الري يؤكد عمق العلاقات المصرية التنزانية على الأصعدة كافة    وزير خارجية الإمارات: مقترحات «بايدن» بشأن غزة «بناءة وواقعية وقابلة للتطبيق»    سعر الريال السعودي اليوم الأحد 2 يونيو 2024 في بنك الأهلي والقاهرة ومصر (التحديث الصباحي)    إحالة تشكيل عصابي للمحاكمة بتهمة سرقة الدراجات النارية بالقطامية    «أوقاف شمال سيناء» تنظم ندوة «أسئلة مفتوحة عن مناسك الحج والعمرة» بالعريش    إضافة 3 مواد جدد.. كيف سيتم تطوير المرحلة الإعدادية؟    ل برج الجدي والعذراء والثور.. ماذا يخبئ شهر يونيو لمواليد الأبراج الترابية 2024    ورشة حكي «رحلة العائلة المقدسة» ومحطات الأنبياء في مصر بالمتحف القومي للحضارة.. الثلاثاء    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    أحمد موسى: الدولة تتحمل 105 قروش في الرغيف حتى بعد الزيادة الأخيرة    عمرو أدهم يكشف آخر تطورات قضايا "بوطيب وساسي وباتشيكو".. وموقف الزمالك من إيقاف القيد    الصحة تكشف حقيقة رفع الدعم عن المستشفيات الحكومية    "الأهلي يظهر".. كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تتويج ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا؟    الزمالك يكشف حقيقة التفاوض مع أشرف بن شرقي    17 جمعية عربية تعلن انضمامها لاتحاد القبائل وتأييدها لموقف القيادة السياسية الرافض للتهجير    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    من شوارع هولندا.. أحمد حلمي يدعم القضية الفلسطينية على طريقته الخاصة (صور)    بعد حديث «حجازي» عن ملامح تطوير الثانوية العامة الجديدة.. المميزات والعيوب؟    دراسة حديثة تحذر.. "الوشم" يعزز الإصابة بهذا النوع من السرطان    طبيب مصري أجرى عملية بغزة: سفري للقطاع شبيه بالسفر لأداء الحج    السفير نبيل فهمى: حرب أكتوبر كانت ورقة ضغط على إسرائيل أجبرتهم على التفاوض    صحة الإسماعيلية: بدء تشغيل حضانات الأطفال بمستشفى التل الكبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر ومياه النيل‏..‏ حقوق تنظمها الاتفاقيات الإقليمية وتحميها القوانين

علي مر تاريخها كانت جريدة الاهرام علي وعي كامل بأهمية الدور الذي تقوم به في صناعة القرار الوطني من خلال تبصير واضعي السياسات ومتخذي القرارات بالقضايا القومية المهمة‏,من خلال إلقاء الضوء عليها ومناقشتها بموضوعية من مختلف جوانبها. في هذا الاطار ننشر هذه الدراسة الموجزة عن قضية مياه النيل وحقوق مصر التاريخية فيها وتفاصيل الاتفاقيات الدولية التي تنظم استخدام المجاري المائية الدولية لغير اغراض الملاحة. الدراسة اعدها السفير معصوم مرزوق مساعد وزير الخارجية سابقا والمسئول السابق عن ملف مياه النيل في المفاوضات بين دول حوض النهر. وقد اتاح له هذا المنصب الالمام بكل جوانب القضية وأسرار المفاوضات مع الدول الافريقية بهذا الشأن. وطبيعة وأسباب الخلافات القائمة بين مصر والسودان من جانب ودول المنبع من جانب آخر. ونحن نضع الدراسة بين يدي الرئيس محمد مرسي وهو يتأهب للمشاركة في القمة الافريقية التي تعقد في اديس ابابا واجتماعاته المرتقبة مع قادة دول حوض النيل المشاركين في القمة.
في ليلة صيفية بديعة بدار سكن السفير المصري في كمبالا أوغندا, وبعد يوم طويل ثقيل ومرهق من المفاوضات مع وفود دول حوض النيل, سألت المرحوم الدكتور صلاح عامر( أستاذ القانون الدولي الشهير): هل تعتقد أن هناك أملا؟.. لقد استنفذنا كل الحيل القانونية للتوصل إلي حلول وسط.. نظر في عيني طويلا ثم ابتسم إبتسامته الخاطفة المميزة, وقال هامسا: يا سيادة السفير.. الموضوع سياسي بالدرجة الأولي, أما الجانب القانوني والفني فيأتيان في المراحل التالية
بعد انتهاء تلك الجولة من المفاوضات, توجهت لمقابلة رئيس البرلمان الأوغندي لمناقشة الطلب الذي تقدم به أحد النواب ويتضمن إلزام مصر بدفع مبلغ يقارب ملياري دولار سنويا مقابل مياه النيل التي تصلها من بحيرة فيكتوريا.. وقد حضر المقابلة رئيس لجنة العلاقات الخارجية, ورئيس لجنة الموارد الطبيعية ونائبته.. وبعد حديث طويل لم يأت الوقت للكشف عن تفاصيله, خرج رئيس البرلمان ليصرح للصحفيين بأن أوغندا لا يمكن أن تقدم علي ما يضر بحقوق مصر في مياه النيل, ونشرت الصحف الأوغندية ذلك في اليوم التالي.
ولقد شاركت في هذه المفاوضات لمدة تناهز6 أعوام ضمن فريق متكامل من وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية وفنيين من جهات أخري, وقد كان الهدف الذي تسعي إليه مصر هو التوصل إلي إتفاق يربح فيه الجميع(Win/Winsituation), وبذل الفريق التفاوضي كل جهده بحسن نية لتفهم إحتياجات كل الأطراف, وقدم تنازلات هامة في كل مراحل التفاوض, ومن المؤسف أن بعض دول الحوض في المراحل الأخيرة تعمدوا كسر قاعدة التوافق التي حكمت كل سنوات التفاوض, وحاولوا لي ذراع دولتي المصب( مصر والسودان) وإجبارهما علي التنازل عن حقوقهما التاريخية.
وما سيلي هو استعراض عام للوضع القانوني والسياسي لحوض نهر النيل, وسوف أتفادي بالطبع ما يعد بطبيعته من أسرار الموقف المصري, رغم أن هذا الموقف بشكل إجمالي كان يتميز بالشفافية والرغبة الصادقة في التوصل إلي تفاهم يضمن المصالح المشتركة لكل الدول المشاطئة لنهر النيل.
أن العبارة التي ذكرها لي المرحوم الدكتور صلاح عامر, تلخص الأزمة إلي حد كبير, حيث أنه كما سنوضح لاحقا, توجد قواعد قانونية وعرفية دولية حاكمة تتساند كلها في حماية الحقوق المصرية في مياه حوض النيل, وتبقي المعالجة السياسية رهن العديد من التعقيدات في كل دولة من دول الحوض علي حده.
في عام1966 بادرت جمعية القانون الدولي بإقرار ما أطلق عليه قواعد هلسنكي لتنظيم المجاري المائية الدولية لغير أغراض الملاحة, وهي القواعد التي إعتبرت بمثابة كشف لقواعد القانون الدولي العرفية لأستخدام مياه الأنهار الدولية, ما لم يكن هناك اتفاق بين دول حوض النهر الدولي علي هذا الإستخدام, وكان أبرز هذه القواعد ما نصت عليه من الاستخدامات العادلة لمياه النهر الدولي( المادة الثانية), وحق كل دولة من دول الحوض في الإنتفاع بمياه النهر المشترك بشكل معقول وعادل( المادة الرابعة), كما وضعت بعض المعايير المعقولة والعادلة في استخدام مياه النهر الدولي ومنها جغرافية حوض النهر, بما في ذلك امتداد مجري النهر أو فروعه في إقليم كل دولة من دول الحوض, والنظام الهيدرولوجي للحوض, وخاصة الإسهام المائي لكل دولة من دول الحوض, و المناخ السائد في حوض النهر, وكذلك الاستخدامات السابقة للمياه في حوض النهر ومنها بصفة خاصة الاستخدامات القائمة في الوقت الحاضر, والحاجات الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة من دول الحوض ومدي اعتماد سكان كل دولة من دول حوض النهر علي مياهه, والتكلفة المقارنة بالوسائل البديلة لتغطية الاحتياجات الاقتصادية, و مدي توافر المصادر المائية الأخري, وتجنب الفاقد بغير مبرر في استخدامات مياه الحوض, ومدي إمكانية تعويض دولة أو أكثر من دول الحوض كوسيلة لتسوية الخلافات بشأن الإستخدام, والمدي الذي يمكن معه تلبية حاجات الدولة بغير أن ينجم عن هذا أضرار هامة لدولة أخري من دول الحوض. ثم قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام1970 إحالة الموضوع إلي لجنة القانون الدولي التابعة لها كي تقوم بدراسة القانون المتعلق باستخدام المجاري المائية الدولية في غير أغراض الملاحة النهرية وذلك بموجب قرارها رقم669(25) الصادر بتاريخ8 ديسمبر.1970 وقد قامت لجنة القانون الدولي بإدراج هذا الموضوع علي جدول أعمالها اعتبارا من دورتها الثالثة والعشرين في عام1971, وبعد أكثر من خمسة وعشرين عاما فرغت لجنة القانون الدولي من إعداد مشروع تضمن33 مادة, قدمته للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام1997, التي أقرت اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية في مايو1997, وفتح باب التوقيع عليها, وقد تحفظت مصر ولم توقع عليها. وقد لوحظ أن عددا كبيرا من دول المنابع قد وقف ضد هذه الاتفاقية بشدة, وهو نفس موقف بعض دول المصب( ومنها مصر) وان كانت معارضتها أكثر إعتدالا.. وأيا ما كان الأمر, فقد أصبحت هذه الاتفاقية منذ دخولها حيز النفاذ بمثابة القانون العام للإستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية.
. وقد اتضح أثناء التفاوض علي هذه الإتفاقية مدي الخلافات في المصالح بين دول المنابع ودول المصب, حيث بدأ هذا الخلاف في بعض المسائل الأولية, مثل تعريف المجري المائي الدولي. فقد تبنت دول المصب التوجه للتوسع في مفهوم النهر الدولي, بحيث يشمل شبكة المياه وضمنها المياه الجوفية المتصلة بالمجري الرئيسي, وذلك لتأمين أكبر حصة من إستخدامات المياه, بينما تبنت دول المنبع الإتجاه الرامي إلي عدم أهمية تعريف المجري المائي الدولي تعريفا قاطعا, بحيث يبقي تعريف النهر مسألة تبحث بشأن كل نهر علي حدة, و محلا للتفاض بين دول النهر. أثيرت أيضا مسألة استخدام بعض الدول للنهر الدولي بشكل يمكن أن يلحق الضرر بالدول النهرية الأخري, حيث تبنت دول المنبع حرية استخدام النهر الدولي داخل النطاق الإقليمي لكل دولة علي نحو لا يحرم دول النهر الأخري من نصيبها العادل وبغض النظر عن الأضرار الناجمة عن هذا الإستخدام, إلا أن دول المصب ومعها أغلبية كبيرة تبنت الإتجاه الذي يري أنه ينبغي حظر أستخدام النهر الدولي بشكل يؤدي إلي ضرر ملموس للدول الأخري. وبشكل عام يمكن القول بأن هناك قواعدا أساسية يمكن إستخلاصها من مجمل الجهد الفقهي الدولي وما أرساه العرف الدولي, فضلا عن الإتفاقيات الدولية وأبرزها إتفاقية الأمم المتحدة السابق الإشارة إليها, وأهم هذه القواعد ما يلي:
أولا: أهمية إحترام الإتفاقيات القائمة التي تنظم الإنتفاع بمياه النهر الدولي.
ثانيا: مراعاة مبدأ التوزيع العادل لمياه النهر الدولي وفقا لمعايير مختلفة أهمها عدد السكان والإستخدامات القائمة والمساحة الجغرافية.. إلخ.
ثالثا: يتوازن مع المبدأ السابق, ويتعادل معه موضوعيا مبدأ آخر لا يقل أهمية وهو مبدأ عدم التسبب في إحداث ضرر لأي دولة مشاطئة للنهر, بسبب إستخدامات لدولة مشاطئة أخري.
رابعا: يتفرع عن المبدأ السابق قاعدة جوهرية تقضي بضرورة الإخطار المسبق قبل البدء في أي عمل أو سلوك علي مجري النهر, وكذلك التعويض عن أي آثار سلبية تترتب علي ذلك.
فيما يتعلق بالإتفاقات السابقة أو القائمة, فأن إتفاقية الأمم المتحدة للإستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية التي اعتمدت في21 مايو1971 قد نصت في الفقرة الأولي من المادة الثالثة علي أنه: لا يؤثر ما نصت عليه هذه الإتفاقية في حقوق دول المجري المائي أو إلتزاماتها الناشئة عن إتفاقات يكون معمولا بها بالنسبة لهذه الدول في اليوم الذي تصبح فيه طرفا في هذه الإتفاقية, مالم يكن هناك إتفاق علي نقيض ذلك.
وتنص الفقرة الثانية من نفس المادة علي أنه: رغم ما نصت عليه أحكام الفقرة الأولي, يجوز للأطراف في الإتفاقيات المشار إليها في الفقرة الأولي أن تنظر عند اللزوم في اتساق هذه الإتفاقيات مع المبادئ الأساسية لهذه الإتفاقية.
من المعروف أن مبدأ التقسيم العادل والمنصف لمياه الأنهار الدولية كان واحدا من القواعد الثابتة في القانون الدولي العرفي وهو ما تم تقنينه في شكل قواعد هلسنكي لعام1966, ضمن قواعد أخري استقرت في العرف الدولي, إلا أن هذا المبدأ كان يصاحبه دائما مبدأ عدم التسبب في إحداث الضرر, ولكن المشروع الذي أعدته لجنة القانون الدولي أعطي أهمية أكبر لمبدأ التقسيم العادل. أما عن كيفية تقدير الضرر, فقد شهدت المداولات التي سبقت إبرام الإتفاقية تراوحا في الآراء بين ضرورة أن يكون الضرر هائلاSubstantial, أو يكون جسيماSignificant أو يكون محسوساSensible أو ملموساAppreciable, وبينما أقرت لجنة القانون الدولي الصفة الأخيرة( ملموسا), ولكن الإتفاقية في النهاية أقرت صفة( الجسامة), ولا شك أن ذلك يزيد من صعوبة الإثبات علي دول المصب, ولكنه كان حلا وسطا ما بين الضرر الهائل, والضرر الملموس.
وكان الوفد المصري قد ركز في بيانه أمام الأمم المتحدة عند مناقشة هذه الإتفاقية في مايو1997 علي أن مصر لن تكون ملزمة إلا بالقواعد العرفية المستقرة, وأنه لا يمكن لمثل هذه الإتفاقية الإطارية أن تؤدي بحال من الأحوال إلي التأثير علي الإتفاقات الدولية الثنائية أو المتعددة الأطراف المتعلقة بأنهار بذاتها, وأكد الوفد المصري علي تحفظه علي صياغة المادة الخامسة مبرزا أهمية الربط بين مبدأ التقسيم العادل لمياه النهر بين مبدأ عدم إحداث الضرر, فقد اشتملت الاتفاقية علي التزام عام يقضي بالتعاون فيما بين الدول المتشاطئة وتبادل المعلومات علي نحو منتظم, كما تضمن الجزء الثالث من الاتفاقية تفصيلا المشروعات التي تنوي إحدي الدول النهرية القيام بها والتي يمكن أن تؤدي إلي أضرار علي الدول الأخري, بحيث أوضحت الإجراءات التي يلزم إتباعها للإخطار عند البدء في تنفيذ مشروعات علي مجري النهر, و البيانات والمعلومات التي ينبغي أن يتضمنها الإخطار المسبق, وحددت مدة معينة( ستة أشهر يجوز مدها) بوصفها مهلة للرد علي الإخطار, وألزمت الدولة المخطرة( بكسر الطاء) عدم البدء في تنفيذ المشروع.. وقد أشار الوفد المصري من جانب آخر إلي أن معايير التقسيم الواردة في المادة السادسة لا يمكن أن تنسخ أية معايير أخري استقر عليها العرف الدولي, وأن صياغة المادة السابعة لا تنال من العرف المستقر بشأن استخدام الحق دون الإضرار بالغير.
ولقد استقر الفقه الدولي علي أنه لا يجوز لدولة مشاطئة لنهر الدولي أن تبرر استخداما يسبب ضررا جسيما لدولة أخري من دول المجري بحجة أنه الاستخدام المنصفEquitable إذا لم يكن هناك اتفاق بين دول المجري المائي المعنية. وقد كان رأي لجنة القانون الدولي في تعليقها علي مشروع المادة السادسة التي أقرتها بصفة مؤقتة في دورتها التاسعة والثلاثين في عام1987 إلي القول إنه حيثما يترتب تأثير علي كمية المياه أو علي نوعيتها تعذر تحقيق جميع الاستخدامات المعقولة والنافعة لجميع دول المجري المائي تحقيقا كاملا, ينجم عن ذلك تنازع الاستخدامات وفي حالة كهذه, تعترف الممارسة الدولية بأنه يلزم إجراء بعض التعديلات أو التكييفات لحفظ ما لكل دولة من دول المجري المائي من مساواة في الحقوق. وهذه التعديلات أو التكييفات يجب التوصل إليها علي أساس الإنصاف, ويمكن تحقيقها علي أفضل وجه علي أساس اتفاقات خاصة للمجري المائي. وقد بلغت الأزمة ذروتها في الإجتماع الوزاري الذي عقد في كينشاسا, حيث أعلن وزير الموارد المائية والري المصري رفض التوقيع علي الإطار القانوني والمؤسسي لمبادرة حوض النيل إلا بعد تحقيق شروط ثلاثة هي:
أولا: نص صريح يضمن عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل وحقوقها التاريخية.
ثانيا: الإخطار المسبق عن أي مشروعات تقوم بها دول أعالي النيل, وإتباع إجراءات البنك الدولي في هذا الشأن.
ثالثا: ضرورة أن يكون تعديل الإتفاق والملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية, وفي حالة الأغلبية يجب أن تشمل دول المصب( مصر والسودان).
بينما اقترحت دول المنابع وضع مادة الأمن المائي في ملحق الإتفاقية وإعادة صياغته بما يضمن توافق دول الحوض حوله خلال ستة أشهر من تاريخ توقيع الإتفاقية وإنشاء هيئة حوض النيل المفترضة. ويمكن القول أن موضوع الإتفاقات القائمةExistingAgreement مثلت عقبة خطيرة ليس فقط في مسار المفاوضات, وإنما يعود تاريخها إلي سنوات عديدة سابقة, حيث كانت أغلب دول الحوض تري فيها ميراثا إستعماريا ينبغي التخلص منه لأنه يعطي لمصر ومعها السودان كامل الحقوق علي مياه النيل, وعندما شرعت مصر في التفاوض حول الإطار الجديد كانت تسعي بعزم صادق إلي إيجاد صيغة تضمن التعاون ضمن رؤية مشتركةSharedVision للتوسع في إدارة وإستغلال النهر لزيادة محصوله, بما يوفر إحتياجات دول المنابع, وفي نفس الوقت يواجه إحتياجات الزيادة المتنامية للسكان في مصر بزيادة حصتها عن الحصة التي تؤمنها الإتفاقات والعرف الدولي, وقد كانت وجهة نظر أغلب وفود دول المنابع وخاصة أثيوبيا أن المشكلة مع الإتفاقات السابقة لا تتعلق بالمبادئ والقواعد التي تحتويها, وإنما في الصعوبة السياسية لتسويق القبول بها في إتفاق جديد, حيث يرفض الرأي العام في تلك الدول استمرار الإلتزام باتفاقيات تم إبرامها خلال الحقبة الإستعمارية.
ورغم اليقين القانوني من أن إتفاقيات المياه لا تختلف عن إتفاقيات ترسيم الحدود, هي نوع من الإتفاقات العقارية التي تكتسب قدسيتها لضمان إستقرار الأوضاع, بالإضافة إلي الأسانيد القانونية العديدة التي تدعم موقف مصر, فأنها استجابت لرغبة حسبتها حسنة النية لإيجاد مخرج من مأزق سياسي لتلك الدول, وتفتق الذهن عن توليد مصطلح جديد ليست له سوابق قانونية, وهو مصطلح الأمن المائيWaterSecurity, علي أساس أن يتضمن نفس قواعد ومبادئ الإتفاقات السابقة وأهمها الحفاظ علي الحقوق التاريخية المكتسبة, والإخطار المسبق عن أي مشروعات جديدة علي مجري النيل.
ودون الدخول في تفاصيل مسار جولات المفاوضات المختلفة, فأن صياغة مصطلح الأمن المائي وردت في التعريف, ثم في المادة الرابعة عشر التي اقترحت دول المنابع أن تكون صياغتها علي النحو التالي: أخذا في الإعتبار أحكام المواد5,4 فأن دول حوض النيل تعترف بالأهمية القصوي للأمن المائي لكل منهم, وتعترف بأن الإدارة التعاونية وتنمية نظام مياه النيل سوف تساعد في تحقيق الأمن المائي وفوائد أخري, ولذلك وافقت دول حوض النيل بروح التعاون علي ما يلي:( أ) العمل سويا لضمان أن كل الدول سوف تحقق وتديم الأمن المائي.( ب) ألا تؤثر بشكل جسيم علي الأمن المائي لأي دولة من دول الحوض.
تقدمت مصر والسودان بطلب لتغيير الفقرة( ب) كي تقرأ كما يلي: ألا تؤثر بشكل عكسيNottoadverselyaffect علي الأمن المائي والإستخدامات الحالية وحقوق أي دولة من دول حوض النيل.
وقد اعتمد المجلس الوزاري صياغة المادة14 بتعديلاتها وقرر رفع الأمر إلي رؤساء دول وحكومات دول الحوض, إلا أنه في الدورة السادسة عشر للإجتماعات الوزاريةNileCom تمت مناقشة مشروع الإتفاق مرة أخري في يوليو2008 في كينشاسا, وكذلك في الإجتماع السابع عشر في الفترة من27 إلي28 يوليو2009 والذي عقد في الأسكندرية, وانتهي إلي قرار بمنح الهيئة التفاوضية ستة أشهر للتوصل إلي إتفاق.
وفي تقديري ربما تتمثل إشكالية المفاوضات حاليا فيما يلي:
أولا: أن التفاوض بدأ علي المستويات الفنية دون نسق سياسي يحدد الحد الأدني لكل طرف.
ثانيا: أن الجانب المصري أغدق في التنازلات خلال المراحل الإفتتاحية للمفاوضات علي أمل حقيقي بأنه سيلقي نفس المعاملة عند طرح الموضوعات ذات الأهمية الحيوية له, لذلك لم يكن لدي دول المنابع أي حافز أو رادع لدفع ثمن بضائع قد سلمت إليه بالفعل.
ثالثا: أن المرجعية المؤسسية لأغلب الوفود كانت تتركز في يد فرد لا تتوفر لديه المعلومات الكافية أو الكفاءة السياسية المطلوبة.
رابعا: أن الطرف الدولي سواء المانحين أو ممثل البنك الدولي لم يمارس الضغط الكافي علي الأطراف لحسم الخلافات التي تجاوزت الحد المعقول لأي عملية تفاوضية تتمتع بحسن النية, واكتفي ذلك الطرف الدولي بإدعاء الحياد الذي هو في حقيقته إنحياز إلي جانب من قاموا بالتوقيع علي إتفاق بالمخالفة لقاعدة الإسناد المتفق عليها وهي التوافق.
خامسا: رغم الأهمية القصوي للموضوع, لم تتحرك القيادة السياسية علي أعلي مستوي, واكتفت بإرسال رسائل كانت تجد طريقها في الغالب إلي المختصين كي يتولوا عرضها علي قيادتهم بالشكل الذي يتفق مع رؤاهم الشخصية التي تنظر من زاوية ضيقة لتحقيق مكاسب وقتية دعائية علي حساب مصلحة إستراتيجية بعيدة المدي.
سادسا: أن المفاوضات كانت تجري محصنة من عيون وآذان وسائل الإعلام, وقد كان ذلك حصافة تكتيكية لها مزاياها العديدة, وقد حرصت فرق التفاوض من مختلف الدول علي الإحتفاظ بمبدأ عزل بيئة المفاوضات قدر الإمكان, حتي إجتماع كينشاسا المشار إليه أعلاه حين خرج وزير الموارد المائية المصرية الجديد بتصريحات نارية مهددة لفتت أنظار وأسماع كل وسائل الإعلام, ودفعت كل الأطراف إلي الحائط حيث انكمشت مساحة المناورة أمام الرجال الجالسين حول موائد التفاوض.
سابعا: أنه لابد من الإعتراف بالحاجات التنموية الملحة لدول الحوض, ومشاركة مصر الحقيقية في التعاون مع تلك الدول, ولكن من ناحية أخري ينبغي أن تكون الرسالة لدول الحوض واضحة في أن أي تهديد لحقوق مصر في مياه النيل, يمثل تهديدا وجوديا لمصرExistentialThreat, لا يؤثر فقط علي كمية المياه التي تصل إليها, وإنما يؤثر علي استمرار مصر كما يعرفها التاريخ. أجدني في نهاية هذه الدراسة الموجزة استعيد العبارة الحكيمة التي ذكرها لي المرحوم الدكتور صلاح عامر: يا سيادة السفير.. الموضوع سياسي بالدرجة الأولي, أما الجانب القانوني والفني فيأتيان في المراحل التالية, وأجد أن الفرصة بعد ثورة25 يناير قد أصبحت مواتية لتحرك علي أعلي مستوي مع كل دول الحوض لتجاوز العقبات التي تحول دون إتفاق سوف يوفر آفاق هائلة للتعاون في إطار الرؤية المشتركة بما يحقق فوائد جمة لكل دول الحوض بلا استثناء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.