على الطريق إلى 3 يوليو 2013، حين انتصر الجيش لثورة الشعب ضد حكم الفاشية التكفيرية والإرهابية، أوجز حقائق يتناساها قسم من النخبة والشباب يعانى من داء البلاهة الليبرالية, أو تحركه أجندة التمويل الغربي, أو لا يستوعب أن صراع الوجود الذى تخوضه مصر يجب كل التناقضات، أو لم يتلق من المعرفة ما يجنبه تصديق فرية حكم الفاشية العسكرية، ويندفع الطرفان ووراءهم المحرضون من الإخوان وحلفائهم الى خطاب تحريضى يتغذى على الالتباس الذى أحاط بمسألة جزيرتى تيران وصنافير، والغلاء الذى ارتبط بقرارات اقتصادية أرهقت غالبية الأمة. وأسجل، أولا، أن الخطاب الأخير للرئيس مرسي، الذى وصفته جماعته بأنه رئيس رباني، فى 2 يوليو عام 2013، جاء إشعالاً لفتنة أرادتها جماعة تجردت من الوطنية وازدرت الوطن, وتحريضاً على العنف ودعوةً لحرب أهلية، ورسالة من الرئيس، الذى أطلق النفير العام لنزعات الترويع والإرهاب، تعلن دون مواربة: حكم الجماعة أو إرهاب الأمة؛ تمكين الاخوان أو حرق الوطن. وجاء الخطاب لغوا عن شرعية رئيس منفصل عن واقع أن الأمة- مصدر الشرعية والسيادة والسلطات- قد ثارت عليه، فخرجت ملايينها الى الشوارع رغم الترهيب والوعيد تطالب بإسقاط حكم الإخوان، رافعةً شعار يسقط يسقط حكم المرشد، وهاتفةً انزل ياسيسي.. مرسى مش رئيسى!! ولم يكن مطلب عزل مرسى الغاءً للشرعية, وإنما استعادة للشرعية الثورية والدستورية, التى انتهكها حين أكد فى كل ما صدر عنه أنه مجرد منفَذ لإرادة مكتب إرشاد جماعته فى رئاسة الجمهورية, لا رئيسا لكل المصريين. فالشرعية تكتسب بإعلاء الرئيس المنتخب مصالح الوطن وحقوق الأمة, فاذا انتهك هذه المصالح والحقوق سقطت شرعيته, ومن حق الأمة سحب الثقة منه, ومن واجب القوات المسلحة أن تنتصر لإرادة الشعب. وثانيا، أنه فى دحض فرية الانقلاب العسكرى وهدر إرادة الناخبين لنتذكر أن القوات المسلحة قد استجابت لإرادة الشعب المصرى الثائر على حكم الإخوان, ونهضت بمهمتها فى إنقاذ الوطن والأمة. وفى بيانها فى مساء 3 يوليو، الذى ألقاه قائدها المشير عبد الفتاح السيسي، أعلنت باستقامة: أنه لم يكن فى مقدورها أن تصم آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب, التى استدعت دورها الوطني, وقد استشعرت أن الشعب, لا يدعوها لسلطة أو حكم, وإنما لحماية مطالب ثورته, واستوعبت هذه الدعوة وفهمت مقصدها وقدرت ضرورتها. وأعلن رئيس الجمهورية المؤقت أنه قد تلقى أمر تكليفه ممن يملك إصداره, وهو شعب مصر, مصدر السلطات; بعد أن قام فى 30 يونيو بتصحيح مسار ثورته فى 25 يناير, ورجا أن تتجدد روح الميدان فى نفوس المصريين جميعا, متوثبة يقظة تحمى الثورة وتحرسها. ولقد أطاحت ثورة 30 يونيو ودون رجعة بدولة الإقصاء والاستبداد والإخفاق, التى جسدها نهج وفكر وحكم ودستور المتاجرين بالدين من جماعة الإخوان وحلفائها; بعد أن تمكنوا من اختطاف ثورة 25 يناير فى غفلة من الشعب صانعها. وثالثا، أن القوات المسلحة الوطنية, بقيادة السيسي, قد انتصرت لإرادة أمتها وتصدت لترويعها وترهيبها, ولم تنصع لضغوط أمريكا الراعية لحكم الإخوان؛ إفشالا لمثال ثورة المصريين الملهمة وتكريسا لتخلف وتبعية مصر وسعيا الى تفكيكها. وبثورتهم فى 30 يونيو تحرر المصريون من أسر اختطافهم الى نفق مظلم; لم يطل غير عام واحد; ولم يكن له إلا أن يكون عابرا فى أمة كان أساس تكوينها ووحدتها الوطنية طوال آلاف السنين يقينها الثابت بأن الدين لله والوطن للجميع. ثم شاركت غالبية الأمة فى جمعة 26 يوليو ضد العنف والإرهاب, مقدمة تفويضا من الدولة لتصفى بؤر العنف والارهاب, سواء فى مواجهة من يتاجر بالدين فى بؤرتى رابعة والنهضة, أو من يقتل باسم الدين فى ربوع الوطن خاصة سيناء. ولم يعد ثمة مبرر لتقاعس الدولة عن شن حرب لا تعرف الهوادة لتصفية بؤر الإرهاب المسلحة فى سيناء, وحل جماعة الإخوان شبه السرية وشبه المسلحة وغير الشرعية وغير الوطنية. وفى هذا السياق، كانت الحرب المريرة والممتدة ضد الإرهاب المدعوم دوليا واقليميا، ودفع شهداء جيش وشرطة مصر وأبناؤها من المدنيين أرواحهم، وانضموا الى صفوف شهداء حروب وصراعات استهدفت تحقيق وحماية وحدة وطننا العظيم مصر, وتكوين وحماية وحدة الأمة المصرية, وحماية استقلال مصر ومقاومة ودحر غزاتها, واستعادة وتعزيز وحدة الدولة حين اعترتها عوامل التفكك بعد ثورة أو غزو, وحماية وتحقيق العدالة الاجتماعية. ورابعا، أن قد نجت مصر من أهوال حرب أهلية بفضل انحياز الجيش الى الشعب، فى 11 فبراير 2011 ثم فى 3 يوليو 2013؛ فأسقطت الأمة حكم مبارك ثم أسقطت حكم الإخوان. لكنه علينا ألا ننسى أن ثورة 25 يناير لم تنته بإسقاط حكم مبارك، وأن ثورة 30 يونيو لم تنته بإسقاط حكم الإخوان، وانما عنوان انتصار الثورتين هو بناء دولة المواطنة, التى تعنى أن تكون مصر للمصريين متمتعة بالسيادة, وأن تحمى الدولة جميع حقوق المواطنة لكل المصريين, دون تمييز أو تهميش. ودفاعا عن دولة المواطنة، أختم فأقول: إن خفض قيمة الجنيه وإلغاء دعم الوقود يبدو السبيل العاجل لمواجهة مخاطر عجز موازنة الدولة والميزان التجارى وميزان المدفوعات وزيادة حجم وأعباء خدمة الدين العام الداخلى والخارجي. لكن هذه الاختلالات لن تتم تصفيتها ما لم يرتبط الاصلاح الاقتصادى بإعادة تخصيص الموارد؛ بحيث يرتبط الاستثمار فى البنية الأساسية والتوسع العمرانى بالاستثمار الانتاجى الصناعى والزراعي؛ بدءا من تشغيل الطاقات الصناعية العاطلة ورفع إنتاجية الزراعة، على طريق إعادة تصنيع مصر وتعظيم الاكتفاء الذاتى من الغذاء. وبغير هذا لن تعزز مصر أمنها الاقتصادى القومي، ولن يتحقق للمصريين أمنهم الإنساني. وبجانب الدور القيادى للدولة فى الارتقاء بجودة التعليم والتدريب وحفز البحث والتطوير، والاستثمار الانتاجى المباشر، ووضع السياسات والتشريعات المحفزة للاستثمار الانتاجي، يبقى الدور الحاسم للرأسمالية المصرية، التى ينبغى أن يلزمها القانون بالنهوض بمسئولياتها الاجتماعية والتنموية والوطنية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم